لم يكن مُستغرَبًا أن ينزل الناس إلى الشارع عفويًا وتلقائيًا، بعد خرق "جنون ​الدولار​" كلّ الضوابط والحدود، وملامسته عتبة العشرة آلاف ليرة لبنانيّة، في مستوى قياسيّ قد تكون طامته الكبرى أنه بات "مفتوحًا وبلا أفق"، وفق تأكيدات الخبراء الاقتصاديّين والماليّين.

كان من الطبيعي أن يغضب المواطنون، ويسعوا لـ"تفجير" احتقانهم بأيّ وسيلة مُتاحة، قد يكون ​قطع الطرقات​ أسهلها، وهم الذين يعيشون في وطنهم "إذلالاً" تعجز ​اللغة​ عن وصفه، بعدما أضحت قيمة رواتبهم الشهرية هزيلة، فيما لا يتجاوز الحدّ الأدنى للأجور 68 دولارًا.

وتتعزّز هذه "القناعة" مع مشاهد "الإهانة" المتنقّلة التي بدأ تداولها على نطاق واسع في ​الساعات​ الماضية، من "معركة" على كيس حليب في أحد المخازن الكبرى، و"إشكال" على زيت مدعوم في متجر آخر، في واقع يكرّس "مأساة" اللبنانيّ، الذي لم يكن يخال أن يصل لهذا الدرك.

لكن، رغم كلّ مقوّمات "​الثورة​" وأسبابها الموجبة، والتي لا يفترض أن تخضع لأيّ نقاش، يبقى "التوجّس" حاضرًا من عامل "التسييس"، عامل لا يكتفي بـ"إجهاض" الحِراك الشعبيّ وأحقّية مطالبه فحسب، بل "يشوّش" عليه، وصولًا حتى "إفراغه من مضمونه" إلى حدّ بعيد...

تحفّظات وعلامات استفهام

لعلّ هذا التوجّس من "التسييس" بالتحديد هو ما يجعل شريحة واسعة من اللبنانيين، ولا سيما مؤيدي ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ و"​التيار الوطني الحر​"، والمحسوبين على "العهد" بصورة عامة، ينظرون بعين "الريبة" إلى التحرّكات الشعبيّة في مختلف المناطق.

لا يعني "توجّس" هؤلاء، كما يؤكدون، أنّهم لا يشعرون بما يشعر به غيرهم من المواطنين، فهم لا ينعمون بـ"امتيازات" خاصة تقيهم "شرّ" الانهيار الحاصل، كما أنّ تأييدهم لـ"العهد" لا يمنح رواتبهم مثلاً "حصانة" حتى تحافظ على قيمتها، في عزّ "تراجعها" بل "ذوبانها".

باختصار، ما يسري على سائر اللبنانيين يسري على "العونيّين"، فهم يعانون كغيرهم من الواقع الاقتصادي والاجتماعي المأسويّ، ويشعرون بانعدام "فسحة الأمل" بمستقبل أفضل، ويكادون "يكفرون" بوطنٍ "أعدم" كلّ طاقة لديهم، وجعلهم يبحثون عن أيّ فرصة هجرة كأنّها "الخلاص".

إلا أنّ لدى "العونيّين"، في المقابل، الكثير من "التحفّظات" وعلامات الاستفهام على حِراك الشارع، التي تجعلهم "يتوجّسون" منه، لعلّ أولها أن يكون "العهد" هو المُتَّهَم شبه الوحيد من قِبَل الكثير من ​المتظاهرين​، الذين لا "يفشّون خلقهم" سوى بشتم "رموزه".

في منظور "العونيّين"، مثل هذا الاتهام غير منطقيّ ولا واقعيّ، لأنّ ​الأزمة​ الاقتصادية والراهنة ليست وليدة اليوم، وإنما نتيجة لسياسات اقتصاديّة متراكمة، بدأت منذ عقود، وتحديدًا منذ أيام كان ​الرئيس عون​ "منفيًا"، حين تمّ التأسيس لما اصطُلح على تسميتها بـ"الحريرية السياسية".

"خريطة الطريق الواجبة"

ويتعزّز "التوجّس العونيّ" من حِراك الشارع مع بعض "التسريبات" التي يتمّ تناقلها حول "الغايات" غير "البريئة" من بعض التحرّكات، والحديث عن "مساعٍ" لتحويله عمليًا من مطلبيّ اجتماعيّ إلى سياسيّ بالدرجة الأولى، للضغط حكوميًا على "التيار الوطني الحر".

وقد يكون للحديث عن دخول "​تيار المستقبل​" بقوة على خط ال​احتجاجات​، التي بدأت تتكثّف في مناطق "نفوذه" في العاصمة ​بيروت​ بالتحديد، دلالاته بالنسبة إلى التيار "البرتقالي"، خصوصًا في ضوء "الصراع" المستمرّ بين الأخير ورئيس ​الحكومة​ المكلّف ​سعد الحريري​.

ولعلّ تزامن هذه "التسريبات" مع استعادة الملفّ الحكوميّ "مكانته" لها أيضًا مدلولاتها بالنسبة إلى "العونيّين"، الذين يعتبرون أنّ "القناع سقط" عن الحريري، بعد رفضه التجاوب مع "المبادرات"، وإثباته أنه "يحجز التكليف ويضعه في جيبه"، حتى إشعار آخر.

لكنّ كلّ ما سبق لا يعني، بالضرورة، برأي "العونيّين"، وجوب إطلاق "رصاصة الرحمة"، على تحرّكات مُحِقّة، دخلت "​السياسة​" على خطّها لتخربها كالعادة، إلا أنّ المطلوب برأيهم السير بموجب "خريطة طريق" واضحة، و"أجندة" تتصدّرها الإصلاحات قبل أيّ شيءٍ آخر.

وفي هذا السياق، يسأل "العونيّيون": أليس من الأجدى أن يتصدّر مطلب التدقيق الجنائي مثلاً، الذي لم يعد أحد ينادي به سوى "التيار"، قائمة المطالب، قبل ​استقالة​ رئيس الجمهورية التي لن تعيد، لو حصلت اليوم أو غدًا، ​الليرة​ إلى قواعدها السابقة، بل قد تعقّد الوضع أكثر؟.

أكثر من ذلك، يعتبر "العونيّون" أنّ المطلوب من "الثوار"، إن كانوا فعلاً يريدون "الإنقاذ"، التصويب على "أصل الداء"، وعلى من ورّطوا البلاد بسياسات اقتصادية "عقيمة"، بدل ​تحقيق​ "رغبات" بعض هؤلاء، الذين لا يجدون حَرَجًا في دعم "حراك" يفترض أن "يُدينهم" أولاً.

"انفصام أم إنكار"؟!

باختصار، يقول "العونيّون" إنّهم لا يشعرون فقط بأنّ "الحراك الشعبيّ"، بعفويّته وتلقائيّته وأحقية مطالبه، بعيدًا عن التسييس "المدمِّر"، يمثّلهم ويعبّر عنهم فقط، بل إنّهم جاهزون لـ"قيادته" إن لزم الأمر، للعبور إلى "برّ الأمان".

يشدّدون على أنّهم ليسوا ضدّ "الثورة"، ويحيلون السائل إلى ما تضمّنه بيان رئيس "التيار" الوزير السابق ​جبران باسيل​ الأخير، حين توجّه إلى اللبنانيّين بالقول إنّ حكومتهم "مخطوفة"، وإن استعادتها لن تكون ممكنة "سوىبرضىالخارجأوبثورةالداخل".

يعني ذلك أنّ "ثورة الداخل" خيار مطروح في القاموس "العونيّ"، لكنّها "ثورة" أبعد ما تكون، في منظورهم، عن تلك التي ترجمتها "انتفاضة" السابع عشر من تشرين الأول، أو حتى التي جسّدتها احتجاجات اليومين الماضيين على "جنون الدولار".

باختصار، ليس المطلوب برأيهم أن تهرب "الثورة" من خلال التلطّي خلف شعار "كلن يعني كلن" الذي يعمّم المسؤوليات، والذي يبدو أنه "تراجع" لصالح تحميل جهات محدَّدة المسؤولية دون غيرها، في مفارقة مثيرة للانتباه والاستغراب.

قد يكون "العونيّون" على حق وقد لا يكونون، فهم في النهاية جزءٌ من الطبقة السياسية، كما أنّهم شاركوا في الحكومات المتعاقبة لأكثر من عقد من الزمن، فضلاً عن كونهم ممّن "جدّدوا" لحاكم ​مصرف لبنان​، الذي يحمّلونه اليوم مسؤولية "الانهيار".

يتّهمهم البعض بأنّهم يعانون "انفصامًا" عنالواقع، أو ببساطة "إنكارًا له"، إلا أنّ "الانفصام" الأكبر يبقى بالسماح لزواريب السياسية بتخريب أساسات "ثورة"، كان النجاح ليكون حليفها في أيّ بلدٍ آخر، لا تتحكّم به الحسابات والاعتبارات الطائفية والمذهبية والعشائريّة...