الهَدفُ من تَأسِيسِ يَسوعَ كَنيستَهُ تَخليصُ العَالمِ، لأنَّها بُنِيت علَيه. هَذا مَا قَالَهُ الرَّبُّ لِبُطرس: "أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا"(متى ١٨:١٦).

والصَّخرةُ هُنا هي يَسوع، الّتي كانت رَمزًا لَه في العَهدِ القَدِيم. مِن هُنا قَالَ بُولُسُ الرَّسُولُ عَنِ الشَّعبِ العِبرانِي في بَرِّيَّةِ سِينَاء "وَجَمِيعَهُمْ شَرِبُوا شَرَابًا وَاحِدًا رُوحِيًّا، لأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ مِنْ صَخْرَةٍ رُوحِيَّةٍ تَابِعَتِهِمْ، وَالصَّخْرَةُ كَانَتِ الْمَسِيحَ"(١ كورنثوس ٤:١٠).

هذا الأمرُ يَضعُ أعضاءَ الكَنِيسةِ في العَالَمِ أمامَ مَسؤولِيَّةٍ كَبيرةٍ أينَما حَلُّوا، وهذِهِ المَسؤولِيَّةُ تتلَخَّصُ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ "الآخَر".

فإذا نحنُ المُؤمِنِينَ سَقَينا الآخَرَ هَذا الشَّرابَ الرُّوحِيّ الّذي يَنبُعُ مِنَ المَسيح، نَكونُ قد شارَكْنا في مَشرُوعِ مَلَكُوتِ اللهِ وأَجلَسَنا اللهُ عن يَمِينِه، وإلاّ نكونُ قد جَلَبْنا على أَنفُسِنا دَينُونَةً عَظِيمَةً ووَضَعَنا اللهُ عن يَسارِه. هذا هُوَ إنجيلُ الأَحدِ(متّى ٣١:٢٥-٤٦) وهُوَ أحدُ الدّينُونَة.

ولا يَقتَصِرُ الأَمرُ على دَينُونَتِنا فَحَسب، بل لا نَعُودُ نَظهَرُ لِلنّاسِ أنَّ الكَنيسَةَ هي المَلاذُ لِكَي نَدعُوَ النَّاسَ إلَيهَا بِخَاصَّةٍ أنَّ اسمَها Ecclesia، وهذا مَعناهُ أَخرُجُ وأَدعُو. فَهذِهِ الكَلِمَةُ يُونانِيَّةٌ، Ek مِنَ الخَارِجِ و Kaleo (Kαλέο) أَدعُو.

ومِن أَهمِّ المَحاوِرِ الّتي ظَهرت فِي ما سُمّي بِعَصرِ التّنويرLe Siècle des Lumières، في أُورُوبا وبِخَاصَّةٍ في ​فرنسا​ و​إنكلترا​ في القَرنِ الثّامن عَشَر، التَّخلُّصُ والتَّحرُّرُ منَ الظَلامِيَّة Obscurantisme الّتي فَرَضَتها السُّلُطاتُ الدّينِيَّةُ والسّياسِيَّةُ المَلَكِيَّة.

فردَّة الفِعلِ في وقتِها جَعلت مِن حَقَبةِ التّنوير هَذه تُدعى عَصرَ المَنطِق. مع أنَّهُ في العُمقِ مَنطِقُ يَسوعَ الخَلاصيّ لا يُعاكِسُ إطلاقًا مَنطِقَ ​الإنسان​ِ الحَسَنِ بل يَرفَعُه، إلّا أنَّ البُعدَ عن إظهَارِ مَنطِقِ اللهِ المُحِبِّ مِن قِبَلِنا بِالأعمالِ والأفعال، يُدخِلُ البَشرَ في تَشويشٍ وضَلالٍ وبُعدٍ وجَفاء. ولا يَنحَصِرُ هذا المَوضوعُ في حَقَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ أو زَمانٍ مُحَدَّد أو حتّى في "​كنيسة​". ومَسؤولِيّتُنا كَبيرةٌ في إظهَارِ صُورَةِ المَسيحِ الفَادِي والحَاضِنِ في الكَنيسَةِ، وعَكسُ ذَلك أمرٌ مُؤلِمٌ ومُحزِنٌ جِدًّا.

اللهُ عَشِقَ الإنسانَ وفَداهُ على الصَّليب، ويَدعُونَا لِنُتَرجِمَ هذهِ المَحبَّةَ الإلهِيَّةَ مع الإنسَانِ الآخَر، وكُلِّ ما يُحيطُ بِهِ مِن طَبيعةٍ وكائنَاتٍ حَيَّة.

"وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ بَعْضًا". هَذا مَا قَالَهُ الرَّبُّ لِلتَّلامِيذِ ولَنَا. و "بِهذا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ"(يوحنا ٣٤:١٣-٣٥). هنا يكمُنُ كُلُّ شيءٍ. وهُنا يُكشَفُ صِدقُ إيمانِنا.

هذا الأمرُ يَجعلُنا نواجِهُ سُؤالًا هامًّا جِدًّا: مَن هُوَ الآخَر؟.

لُغَويًّا الآخَرُ هُوَ مَن لَيسَ أنا، ولَكن في لُغَةِ السَّماءِ هُوَ أنا، لأنَّ الآخَرَ هُوَ المَسيحُ لي، وأنا المسيحُ له.

هذِهِ القَاعِدَةُ تَضعُ كُلَّ المُعادَلاتِ جَانبًا، وتَتَخَطَّاهَا إلى آفاقٍ مُختَلِفَة. إنَّهُ البُعدُ المسّياني في كُلٍّ مِنّا. قد يَبدو الإنسَانُ عِندَ الفَيلسُوفِ الإنكلِيزي Thomas Hobbes (١٥٨٨-١٦٧٩م) مثلًا "ذِئبًا للإنسان الآخر"، مُفتَرِضًا في كِتابِهِ Du Citoyen أنَّ الإنسانَ بِطَبيعتِهِ ليسَ إجتِماعِيًّا، وهُوَ في صِراعٍ دائمٍ مَعَ الآخَرِ لِتَكونَ الغَلَبَةُ لِلأقوى. وعِندما يُريدُ الإنسانُ الخُروجَ مِن هَذِهِ الحَربِ، يُبرِمُ اتّفاقًا مَعَ الآخَر. ويَخلُصُ Hobbes إلى أنَّ الآخَرَ لا يُطاقُ، ولَكِن في الوَقتِ نَفسِه لا يُستَغنى عَنه، فيما دَعاه "اللاإجتماعيّة–الاجتماعيّة".

لا يَختَلِفُ الفَيلَسُوفُ Immanuel Kant (١٧٢٤- ١٨٠٤م) عن هذا الطرح، إذ يقولُ "كَونُ الإنسانِ مَدفُوعًا بِمَصلَحَةٍ شَخصِيَّة، فَإنَّهُ يَضَعُ نَفسَهُ في مُواجَهَةِ الآخَرين". صحيح أنَّهُ يَعتَبِر هَذا دَافِعًا للتَّحفِيزِ لكن قد يكون مدَمِّرًا إذا كانَ بِلا ضَوابِط.

كَما يَقُولُ هذا الفَيلَسوفُ "إذا كُنتُ لا أَعرفُ الآخَرَ، فَلا بُدَّ لِي مِنَ التَّعرُّفِ عَلَيه". إذ يَربِطُ هذا الأَمرَ بِالنُّمُوِّ الشَّخصيّ لِلفَردِ وبُنيانِ المُجتَمَع، بِالإضَافَةِ إلى أنَّهُ وَاجِبٌ أخلاقِي.

وكثيرون مِنَ الفَلاسِفَةِ تَخبَّطُوا بَينَ الإيجَابِيَّةِ والسَّلبِيَّةِ في وَصفِ العَلاقَةِ بالآخَر، فَهيغل Hegel يَقولُ "لا يُمكِنُني التَّعرُّفُ على الوَعي الذّاتِي إلّا مِن خِلالِ وَعيٍ ذَاتِيّ آخَر"، وسَارتر Sartre يَقولُ في كِتابِهِ "الوُجودُ والعَدَمُ"Le Neant et L’ëtre الآخَرُ هو الوَسيطُ بَيني وبينَ نَفسِي.

ويَبقى عُمقُ الجَوهَرِ لِكُلِّ تَساؤلاتِ الفَلاسِفَةِ والبَاحِثينَ وكُلِّ امرئ عَنِ العَلاقَةِ مَعَ الآخَرِ مَا قَالَهُ الرَّبُّ لِقَايينَ: «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟» فَقَالَ: "لاَ أَعْلَمُ! أَحَارِسٌ أَنَا لأَخِي؟» فَقَالَ الرب: «مَاذَا فَعَلْتَ؟ صَوْتُ دَمِ أَخِيكَ صَارِخٌ إِلَيَّ مِنَ الأَرْضِ".

نَعم، نَحنُ حُرّاسٌّ بَعضُنا لِبَعضٍ، لأنَّ أَلَمَ كُلٍّ مِنّا وجُرحَهُ وحُزنَهُ يَطرُقُ بَابَ السَّماء.