يحمل ​البابا فرنسيس​ إلى ​العراق​، وإلى الشّرق الأوسط،كما إلى العالم، صورة نقيّة صافية وحديثة للأديان الّتي من صميم رسالتها الدّعوة إلى السّلام والمحبّة، وتقديم حلول للمشاكل والأزمات الإنسانيّة، بالتقائها حول رفض العنف و​الإرهاب​ وتسييس الدّين، في خدمة أيديولوجيّات مبنيّة على الموروث الدّينيّ، الّتي شوّهت الدّين، وقتلت الإنسان. يقدّم البابا فرنسيس، بزيارته، هديّة إلى العالم أجمع، بالشّهادة والعمل الجادّ للتّقارب والتّواصل المشترك الفعليّ، في الأخوّة الإنسانيّة، من خلال القيم الرّوحيّة السّاميّة، وما تختصره ترنيمة الملائكة "المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام".

العراق الجريح، كما ​فلسطين​ وسوريا،ولا سيّما ​لبنان​ الّذي دفع ثمنًا باهظًا، باسم الشّرق والعالم، ثمن المحاور والتّقلّبات والتّحالفات السّياسيّة العالميّة على أرضه، فتحوّل من أرض للسّلام، ودعوة للإيمان بالإله الواحد، إلى أرض خصبة للإرهاب والقتل والتّهجير باسم الدّين والله. اقتحم البابا فرنسيس معارك التّكفير،بلباسه الأبيض، بجعبة المحبّة، متمسّكًا بالأخوّة الإنسانيّة الشّاملة والكاملة المشبعة بالرّوحانيّة الّتي بذرها الرّبّ يسوعفي كنيسته، وهيالتّواضع، والبحث عن القريب والغريب والضّائع واليتيم والمهمّش، وعن كلّ من يحمل، في روحه وجسده،الجراح، والآلام، من جراء قساوة الإنسان على الإنسان.

ترأّس الحبر الرّومانيّ، خليفة بطرس الرّسول، رأس الكنيسة الكاثولكيّة،اللّقاء بين الأديان، في سهل أور، مهد ابراهيم أبي المؤمنين.في كلمة مفعمةبثقافة الكنيسة، المتصالحة مع ماضيها، والـمنفتحة على الآخر، بقبولها الحداثة الّتي مازالت تقف، في وجهها، الدّيانة ​الإسلام​يّة سدًّا منيعًا. فالبابا يؤوّل دعوة ابراهيم، في لغتنا وعصرنا، ليعطيها دلالات جديدة،ولتصويب كلّ الأديان نحو هدف واحد، هو خلاص الإنسان.

من أيقونة النّبيّ ابراهيم، تكلّم البابا فرنسيس، فقال:"نحن اليهودَ والـمسيحيينَ والـمسلمين، مع إخوتِنا وأخواتِنا من الدّياناتِ الأُخرى، نُكرّمُ أبانا ابراهيم، ونعملُ مثلهُ: ننظرُ إلى السّماءِ ونسيرُ على الأرض". حقًّا ما أجمل أن يعيش الإنسان في احترام، وعدالة، ومساواة، تحت سماء واحدة، على الرّغم من فرادته، وتنوّعه، فيعكس صورة الطّبيعة الخلّابة الّتي صنعها الإله القدير!.

تحت السّماء الّتي نظر إليها ابراهيم، يستشفّالبابا رسالة اتّحاد، إذ "يَدعونا الإلهُ العليّ، مِن فَوق، إلى عدمِ الانفصالِ أبدًا عن الأخِ الـمُقيمِ إلى جانبِنا. اللهُ الـمُتعالي من فوق، يدفعُنا نحو أخينا الـمختلف عنَّا". نعم، قداسة البابا يدعو الجميع إلى تمجيد الله المتعالي، من خلال القريب، فالله ليس متعاليًا وحسب، إنّما هو قريب في كلّ إنسان نلتقيه. كما يدعونا للخروج من محوريّة الأنا والانطلاق بمحبّة. ويحدّد البابا مفهوم التّديّن الحقيقيّ، من خلال عبادة الله المرتبطة بمحبّة القريب، وإلّا أصبح تديّني تشويهًا، وأكبر إساءة، وتجديفًا، وتدنيسًا لاسمه القدّوس. ويضيف: "لا يصدرُ العداءُ والتَّطرُّفُ والعنفُ من نفس متديّنة؛ بل هذه كلّها خيانةٌ للدّين" وبصريح العبارة "لا نقدرُ أن نصمتَ عندما يُسيءُ الإرهابُ إلى الدّين". وأضاء على مفهوم "الارتداد الدّينيّ الإجباريّ". نعم، الدّين هو دعوة سماويّة علينا أن نجيب عنها بحرّيّة كاملة، فالله يريدنا أن نعبده بحرّيّة وحبّ. وصلّى، في كلمته، من أجل احترام حريّة الضّمير، كما حريّة المعتقد والاعتراف به.من أرض ابراهيم دعوة لكي تكون الأماكن المقدّسة مكان لقاء للجميع. الله يحبّ كلّ أبنائه وكلّ الشّعوب. ولا يغيب السّلام من خطاب رجل السّلام، فقال: "لن يكونَ سلامٌ بدون أن تمدَّ الشُّعوبُ يدها إلى الشُّعوبِ الأُخرَى. ولنيكونَ سلامٌ ما زِلنا نعتبرُ الآخرينَ أنَّهُم آخرُون، ولَيسُوا "نحن"، جزءًا منّا. ولن يكونَ سلامٌ ما دامتِ التَّحالفاتُ تنشأُ ضدَّ أحدٍ ما، لأنَّ تحالفاتِ البعض ضدَّ البعض لا تزيدُ إلّا الانقسامات. السَّلامُ ليسَ فيهِ غالبونَ ومَغلوبون، بل إخوةٌ وأَخوات، يسيرونَ من الصّراعِ إلى الوحدَة، رغمَ سُوءِ التَّفاهمِ وجراحِ الماضي. لنُصلِّ ولنَطلُب هذا السَّلامَ لكلّ الشَرقِ الأوسَط". هذا اللّقاء هو دعوة لكلّ مؤمن، من مختلف الأديان، للصّلاة من أجل تحوّل أدوات الكراهية إلى أدوات سلام.

نعم! كم الشّرق والعالم بحاجة لترتفع الإسقاطات والتّأويلات والاستنباطات والاستقراءات الّتي لا تشبه الله، مبدع هذا الكون الجميل. فهل العالم جاهز لإعادة تلقّي النّصّ بحسب روحانيّة هذا اليوم المقدّس، وليس بحسب الأمس الغابر؟ فالله يكلّمنا لكي تكون رحلتنافي هذا الشّرق، علامة للأمم، فنكتشف الجمال الحقيقيّ، والسّلام الحقيقيّ الّذي سيبقى الحلم الأجمل الّذي ترقى إليه الإنسانيّة جمعاء.

اختتم اللّقاء بصلاة تجمع ولا تفرّق الإنسانيّة جمعاء: "أيُّها الإلَهُ القدير، يا خالقَنا ويا مُحِبَّ البشرِ وكلِّ ما صنعت يَداك، نحنُ أبناءَ وبناتِ ابراهيم الـمنتمِينَ إلى اليهوديَّةِ والمسيحيَّةِ والإسلام، مع كافَّةِ الـمؤمنينَ وجميعِ أصحابِ النوايا الحسنَة، نشكرُكَ لأنّكَ أعطيتَنا ابراهيم، ابنَ هذه الأرضِ النبيلةِ والعزيزة، أبًا مشتركًا في الإيمان… افتح قلوبَنا للمغفرةِ الـمتبادلَة، فنصبحَ أَدواتٍ لِلمصالحةِ، فنَبنيَ مُجتمعًا أكثرَ عَدالةً وأُخوَّة.اقبَل جَميعَ الـموتى في دارِ الأبديَّة، دارِ السَّلامِ والنُّور، وخاصَّةً ضحايا العنفِ والحروب". لتبقى الصّلاة مرتفعة إلى الله، من خلال اللّقاء.

شكرًا قداسة البابا فرنسيس على هذا الأفق الجديد، إذ لا بدّ للكلمة المزروعة في القلب،من أن تنبت وتعطي ثمارًا ملؤها الخير والمحبّة والجمال، إلى شرقنا، مهد الحضارات والدّيانات، وإلى العالم أجمع.