الكثير من المؤرخين في وطننا العربي وثّقوا تاريخ جلاء المستعمر الغربي عن بلادنا العربية، والكثير من قيادات ومفكرين وكتاب وصفوا هذا الجلاء ب​الاستقلال​ الوطني وخصصوا له يوماً وطنياً للاحتفال به من كل عام وكأن الاستقلال يزورنا مرة في ​السنة​ فقط.

لكن واقعنا المرير يفرض علينا الإقرار بكل شجاعة بأن الاستعمار الغربي لأوطاننا العربية زال عن أرضنا ​عسكري​اً لكنه ما زال سارياً ومستمراً حتى يومنا هذا بال​سياسة​ وال​اقتصاد​ والثقافة والإعلام وبعاداتنا وحياتنا وفي ثرواتنا الوطنية وحتى في لقمة عيشنا التي أضحت مصادرة لمصلحة المستعمر، أما ​مصارف​نا وعملتنا الوطنية فتراها مرتبطة بمصارف وبعملة المستعمر الغربي ولم نجد لتحريرها سبيلاً حتى تاريخنا هذا على الرغم من امتلاكنا كل المقومات والثروات و​الدورة​ ​الاقتصاد​ية المؤهلة لإعلان استقلال اقتصادنا وعملتنا عن اقتصاد وعملة المستعمر.

نقولها بمرارة إننا كشعب عربي ما زلنا تحت وطأة الاستعمار الغربي الأميركي ولو بثوب مختلف ولم نجرؤ على اتخاذ قرار نافذ بالتحرر الفعلي والكامل عن الاستعمار الغربي، ولو عدنا إلى صفحات التاريخ لاكتشفنا بأن ​الفساد​ المستشري بين قادة بلادنا والحاشية والمقربين هم أنفسهم أصحاب ​المال​ المكدس والمهرّب إلى مصارف المستعمر تحت أسماء مستعارة ومجهولة الهوية، وليتبين لنا السبب الحقيقي لاستمرار هذا الاستعمار معشعشاً في رؤوس الكثيرين.

معظم أصحاب رؤوس الأموال يؤمنون بأن الغرب هو مركز إدارة أموال واقتصاد ​العالم​ وهو رائد في ​العلوم​ والتكنولوجيا وفي كل المجالات، وأن الغرب هو حامل مشعل الديمقراطية وحقوق ​الإنسان​ وهو مسيّر لحياة البشر، ولا فكاك من الالتزام بما يقرره الغرب لأنه الأقوى عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وإعلامياً وأننا كعرب لا حول لنا ولا قوة إلا باتباع الثوابت السياسية والاقتصادية المفروضة علينا من المستعمر القديم والجديد.

بعد مرور أكثر من سبعة عقود على نيل استقلالنا المزعوم ثبت لدينا أن ثوابت ​السياسة​ الغربية عموماً والأميركية خصوصاً في بلادنا العربية هي أن لا ثوابت فيها، وأدركنا أن ثابتة واحدة لم تزل فاعلة ونشطة حتى يومنا هذا وهي ثابتة زرع الفساد بكل مفاصل دولنا العربية وبين شعبنا عن سابق تخطيط وتصميم، فالفساد المستشري هو السم الزعاف القاتل لمطامح الشعوب وقاطع الطريق لأي تطور تنموي اقتصادي وسياسي وعسكري وفكري وعلمي ومانع لأي تخطيط إستراتيجي مستقبلي ومعطل لأي بحث تكنولوجي يمكنه بلوغ الإنسان العربي.

الغرب المستعمر و​أميركا​ اعتمدوا خطة زرع الفساد في بلادنا العربية من خلال تنصيب قادة فاسدين أتقنوا لعبة الفساد ولجؤوا إلى تعيين مافيا أزلامهم والمقربين غير المؤهلين من رؤساء مجالس وإدارات ومؤسسات تابعة للدولة من أجل ضمان احتكار مقدراتها ونهب الأموال العامة وإفراغ الخزينة على حساب إفقار وإذلال الشعب، وممارسة الفساد والإفساد المحمي من المستعمر الغربي ل​تحقيق​ الثراء غير المشروع، وبذلك يضمن الغرب إعدام أي فرصة للشعب العربي للتقدم والعلم والابتكار والعيش على أرض وطنه بكرامة.

إن ما يعيشه شعبنا العربي في ​لبنان​ وسورية و​العراق​ و​ليبيا​ و​اليمن​ ومصر وتونس و​السودان​ دليل واضح لا لبس فيه على ثوابت سياسة المستعمر القائمة على نشر الفساد في بلادنا العربية.

إن الفساد لا يمكن حصره بالسطو على الأموال العامة أو بالحصول على رشاوى، إنما الفساد الحاصل هو تأشيرة صالحة لهجرة الأدمغة لتحقيق كي الوعي العربي ولإفساد الذات ولضرب الثقة بالإنسان العربي، والفساد هو إفساد للعقيدة الوطنية وتخريب للعقل وللمبادئ وإلغاء للضمير الإنساني، فحين يسود الفساد يتعطل الانتماء الوطني والقومي ويلغى التفكير بالتقدم والنمو وتتعطل القيم ويودع الإنسان إنسانيته، حينها تسود الفوضى والخراب في مجتمعنا وبأساليب متعددة.

إن لعبة إفقار بلادنا العربية وتجويع شعبنا لم يكن بالإمكان تنفيذها لو لم يسلط علينا الغرب زمرة من الأزلام والمقربين المتنفذين الفاسدين الذين أتقنوا فن نشر ثقافة الفساد بحماية ​السلطة​ الحاكمة المحمية بدورها من الأميركي المستعمر الجديد، وجعلوا منهم قادة وأصحاب مصارف وشركات أطبقت على مقدرات بلادنا وأحكمت قبضتها على رقاب المواطنين عبر القبضة ​الأمن​ية، فاستبيحت حقوق المواطن وامتهنت كرامته وضاع حق الوطن لذلك أصبنا بهزيمة مزدوجة.

الهزيمة الأولى أننا قبلنا بما خططه لنا المستعمر، والهزيمة الثانية أننا لم نتجرأ على محاسبة ومعاقبة الفاسدين من الحاشية الجائرة التي أمعنت بالفساد وبالقمع والأمن الاستباقي، ليس خوفاً على الوطن بل خوف من كشف كهوف الفساد تنفيذاً لأوامر المستعمر.

نقول وبكل صراحة إن المستعمر الجديد لبلادنا العربية هو الفساد المستورد وبأساليب عدة أسفر عن تغيير في نمط وعينا وحياتنا وتفكيرنا وتعديل في أولوياتنا بعدما نجح المستعمر الجديد في كي وعي وإدراك الإنسان العربي، فأصبح لاغياً للوعي ومن دون تخطيط وبلا أمل وبلا قيمة بين شعوب العالم.

إن سياسة التجويع المتعمدة وحالة ​الفقر​ والعوز التي أصابت شعبنا كانت نتاج فساد الوعي الذي زرعه المستعمر في داخلنا كأداة نافذة لإلغاء الفكر العربي ولتعطيل أي تخطيط إستراتيجي يضمن تطور الإنسان ولإبقائنا في خانة التخلف، فالجوع كافر والعوز قاهر فلو خيرنا أباً أو أماً لأسرة أصابها الجوع والعوز بين أي قضية وطنية وبين مشكلة إطعام أسرته، فالمؤكد أن حل المشكلة سيتقدم على القضية وسيحتل الأولوية في تفكير رب الأسرة التي أصابها الجوع والعوز، حينها يصاب الالتزام الوطني بالتراجع والتحلل من أي انتماء.

بين الفساد وكي الوعي حبل سري ينعش غسل الأدمغة المؤدي إلى تغيير المبادئ والقناعات، والفساد هو المشرّع الرئيسي للاستعمار الجديد لبلادنا وهو مفتاح التحكم بقوت شعبنا وبمقدرات بلادنا والقبض على قرارنا السيادي.

إن المؤامرة الاستعمارية الدنيئة المتوحشة لا تعترف بالإنسانية بمكان وهي لا تستهدف بلداً عربياً بمفرده بقدر ما تستهدف عالمنا وشعبنا العربي بمجمله لمنعه من الوصول إلى مصاف التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي.

إن ​القضاء​ على آفة الفساد في بلادنا والبحث والتخطيط لتأمين مقومات ​الحياة​ والصمود لشعبنا العربي أضحى أولوية وطنية يضمن لنا قطع حبل السرة الموصول بين المستعمر وعملاء الداخل ويمنحنا الاستقلال الحقيقي الذي نستحق ويعطي أجيالنا فرصة العلم والتقدم والاحترام بين شعوب العالم.