يومًا بعد يوم، يزاد الوضع "كارثيّة" في ​لبنان​، وسط ​أزمة اقتصادية​ متفاقمة، وإفلاس ماليّ غير مسبوق، وانهيار اجتماعيّ وأخلاقيّ بلا مثيل، وجمود سياسيّ مُطلَق، تغيب عنه أيّ بوادر انفراج، أو بالحدّ الأدنى، نافذة أمل، مهما كانت محدودة.

يشعر ​اللبنانيون​ أنّهم باتوا في قلب "جهنّم" التي حذّرهم ​رئيس الجمهورية​ ​ميشال عون​ من الانزلاق إليها قبل أشهر، فـ"نار" الغلاء الفاحش، و​البطالة​ المتفشية، والرواتب المتآكلة، و​الليرة​ المنهارة، تكاد تحرق الأخضر واليابس دفعة واحدة.

رغم كلّ ما سبق، ثمّة من يسعى لاستيلاد أزماتٍ أخرى لإضافتها إلى المشهد، وكأنّ الأزمات الحاليّة لا تكفي أو لا تفي بالغرض، فتأتي "أيام غضب" من هنا، بعناوين مطلبيّة مُحِقّة، لتعقّد المشهد، ويحلّ "التسييس" ضيفًا ثقيلًا على الموائد من هناك.

وبين هذا وذاك، انضمّ مصطلح "الاعتكاف" إلى النقاط الإشكاليّة والسجاليّة، بعدما اختار رئيس حكومة ​تصريف الأعمال​ ​حسان دياب​ أن يلوّح به في "ذروة" ​الأزمة​، في "تكتيك" حاول الإيحاء بأنه يريد من خلاله الضغط للإسراع بتشكيل حكومة تزيح الأعباء عن عاتقه.

لكن، هل يمكن لدياب أن ينفّذ "وعيده"، ويعتكف فعليًا عن أداء مهامه، بإطارها الضيّق والمحدود؟ وأيّ سيناريوهات تنتظر اللبنانيّين في حال دخل "الاعتكاف" حيّز التنفيذ؟ وهل يجيز ​الدستور​ أصلاً لرئيس ​الحكومة​ الإقدام على مثل هذه الخطوة؟.

"موقف سياسي"

في المبدأ، لا يبدو تلويح رئيس حكومة تصريف الأعمال أكثر من "موقف سياسي" ينطوي على "رسائل" مبطنة ومشفّرة، تتفاوت قراءاتها وتقديراتها، بحسب الميول والانتماءات السياسية، بعيدًا عن أن يكون "خطة عمل" فعليّة، أو حتى "خريطة طريق" واضحة المَعالِم.

ولعلّ دياب نفسه أوحى بهذا المعنى "السياسيّ" لكلامه حين أعلن أنّه شخصيًا لا يحبّذ اللجوء إلى خيار الاعتكاف، وإن تركه واردًا بفعل "الضرورة" التي تفرض في بعض الحالات أخذ بعض المواقف التي قد لا تكون متناسبة أو منسجمة مع القناعات والثوابت.

من هنا، قد يكون من المُجدي بحث المدلولات السياسية لكلام دياب، قبل الغوص في المفاعيل والتداعيات التي يمكن أن تترتّب عليه، علمًا أنّ هناك وجهات نظر "متناقضة" في هذا المضمار، "يتوسّطها" رأي رئيس حكومة تصريف الأعمال نفسه، الذي يضع موقفه في إطار "الحضّ" على ​تشكيل الحكومة​، وبالتالي وضع حدّ لنهج المماطلة والتسويف الحاصل.

ولعلّ ما يعزّز هذا الرأي أنّ دياب لم يعد قادرًا على تحمّل "الضغط" الذي يأتيه من الأطراف المتصارعة، بين "سندان" فريق "العهد" الذي يدفع باتجاه تفعيل عمل الحكومة، بما يتجاوز "حدود" تصريف الأعمال المتعارَف عليها، و"مطرقة" خصوم "العهد" الذين يريدون توظيف دياب في خدمة مشروع استهداف "العهد"، بعدما صُوّر كأنّه "أداة" في يده.

لكن، أبعد من "الرسالة" المُعلَنة عبر كلام دياب، تبدو الرسائل "المضمَرة" أكثر جدليّة، فـ"العهد" غير المرتاح لما يعتبره "تحوّلاً نوعيًا" في أداء دياب منذ استقالته، أحرِج بشكلٍ أو بآخر في قراره، فيما رئيس الحكومة المكلَّف ​سعد الحريري​ لم يجد فيه ما "يثلج قلبه"، بعدما وضعه في "الخانة" نفسها من التعطيل، ولو أنّ هناك من "رجّح" أن يكون ما صدر عن دياب "منسَّقًا" معه.

أي مفاعيل "عملية" للخطوة؟

يرى البعض أنّ كلام دياب قد لا يتحمّل كلّ هذه الفرضيات والاجتهادات، فكلّ ما يريده الرجل كان "تسجيل موقف"، خصوصًا أنّه يشعر أنّ المماطلة في التشكيل "متعمَّدة"، حتى يُلقى كاهل مسؤولية الأزمة عليه، وهو "المكبَّل" بالشروط والشروط المضادة، لتأتي الحكومة بعد ذلك بعنوان "الإنقاذ"، حين تتوافر مقوّماته، وتنضج الظروف الملائمة والمناسبة له.

لكن، بمُعزَلٍ عن حقيقة الموقف السياسي، ثمّة من يطرح علامات استفهام عن المفاعيل "العملية" لخطوة "الاعتكاف" فيما لو تمّت، حتى وإن كان مثل هذا الخيار مُستبعَدًا حتى إشعار آخر، وقبل ذلك، ما إذا كانت هذه الخطوة قانونية ودستورية، والأهم من ذلك، ما يمكن أن يترتب عليها من ارتدادات على الواقع المتردّي أصلاً للمواطنين.

ومع أنّ البعض حاول الإشارة إلى وجود "سابقة" غير بعيدة زمنيًا، لاعتكاف تلا الاستقالة، مارسه وزير الداخلية السابق ​زياد بارود​، يشير الخبراء القانونيّون إلى فارق "جوهري" لا يجيز المقارنة بين وزير، ثمّة دائمًا من ينوب عنه بالوكالة، وبموجب مراسيم رسمية، ورئيس حكومة، تكفي استقالته مثلاً للإطاحة بالحكومة، أي حكومة، عن بكرة أبيها.

وفيما يقلّل البعض من شأن الخطوة التي لوّح بها دياب، باعتبار أنّ الأخير، كما يقول بعض المحسوبين على "العهد"، "شبه معتكف" أصلاً، فهو لا يقوم سوى بالحدّ الأدنى من الأمور الإدارية والروتينية، ويرفض التجاوب مع المطالبات المتكرّرة بتوسيع إطار تصريف الأعمال، ثمّة من يعتبر أن "اعتكافه" سيجرّ البلاد نحو المزيد من السلبيّة.

ويذهب أصحاب هذا الرأي أبعد من ذلك، ليطرحوا "إشكاليّة" محاسبة رئيس حكومة تصريف الأعمال فيما لو أقدم على مثل هذه الخطوة، علمًا أنّ الدستور واضح، وقد حرص المشرّع على عدم ترك أي مجال لـ"الفراغ المُطلَق" لما يمكن أن يؤدي إليه من "فوضى" كاملة في المؤسسات، تنعكس تلقائيًا على تدبير الناس لشؤونهم الحياتية اليومية.

"مفارقة" مضحكة مبكية

عندما أعلن رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب عن كلمة سيلقيها قبل أيام، على وقع الغضب الشعبي الناتج عن الارتفاع "الجنوني" لسعر الصرف، تساءل البعض، بأسلوبٍ ساخر، ما إذا كان الرجل "سيستقيل"، رغم أنه "مستقيل" أصلاً.

لكن "السخرية" تحوّلت إلى "حقيقة"، بعدما لوّح دياب بـ"استقالة" تضاف إلى "الاستقالة"، وتحمل شكل الاعتكاف، في خطوة وجد كثيرون صعوبة في تلقفها واستيعابها، خصوصًا أنّ الاعتكاف يكون عادةً بمثابة "إنذار" يسبق الاستقالة، باعتبار أن "آخر ​الدواء​ الكيّ".

قد تكون هذه "المفارقة" مضحكة في مكانٍ ما، وإن دلّت على "خلل" آخر في النظام، الذي لا يزال مفتوحًا أمام كلّ أنواع الاجتهادات، بل "البِدَع" التي تتلطّى خلف عناوين قانونيّة ودستوريّة، وهي لا تمتّ إلى القانون والدستور بأيّ صلة.

لكنّها مفارقة "مبكية"، في الآن نفسه، لأنّها "تفضح" حقيقة أنّ ​الدولة​ "المعتكفة" عن أداء الحدّ الأدنى من واجباتها تجاه مواطنيها، لا تجد "حَرَجًا" في التلويح بالمزيد من "الاعتكاف"، الذي لا يعني في قاموسها سوى "تجاهل" صرخات الناس المُحِقّة.

إذا اعتكف دياب كما يلوّح أو لم يفعل، يبقى الأكيد أنّ جميع المسؤولين "معتكفون" عمليًا، بل قد يكون المطلوب أن "يعتكفوا" عن سجالاتهم التي لا تنتهي، وأنانيّاتهم التي تكاد تطيح بما تبقّى من وطن، إن بقي منه شيءٌ يُذكَر أصلاً...