عندما كان اللبنانيون منشغلين بالطرق التي قطعها محتجّون بعد تدهور قيمة الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي، كانت تجري محاولات رسم سياسات إقليمية وفق قواعد جديدة، ستترك تداعياتها على لبنان، عنوانها: الروس وسطاء لحل الأزمات.

تنطلق موسكو من مستجدات سياسية أساسها التراجع الأميركي في الإقليم. لا يعني ذلك أنهم قرروا وراثة واشنطن في أي ساحة دولية تغادرها، ولا فقط ملء الفراغ في دول عربية مأزومة، بل إن كلاّ من روسيا والصين يتمددان سياسيا وإقتصادياً في مساحات عالمية واسعة، وهما يخوضان نزاعاً دائماً مع الأميركيين القلقين من تمدد حلف صيني-روسي عابر للقارات.

يمكن مراجعة دور الحلف المذكور في الإقليم:

أولاً، حجم التبادل الإقتصادي بين ​الإمارات​ العربية المتحدة والصين الذي تتخطى قيمته خمسين مليار دولار سنوياً.

ثانياً، توجه المملكة العربية السعودية لتوسيع التعاون مع الصينيين والروس.

ثالثاً، رصد التعاون العسكري الروسي-المصري الكبير.

رابعاً، التحالف المتين المعمّد بالدم بين دمشق وموسكو عسكريا وسياسيا وإقتصادياً.

خامساً، قراءة البُعد الآخر لرسالة الرئيس الصيني لنظيره السوري ​بشار الأسد​ في ​الساعات​ الماضية.

سادساً، العلاقات الروسية والصينية ​الطيبة​ مع الإيرانيين التي تُترجم في أكثر من ملف، وقد ظهر تأثيرها في سوريا.

سابعاً، الدور الروسي في ليبيا، ومحاولة تقريب المسافات بشأن اليمن.

يمكن الإستناد إلى تلك المحطّات للجزم أن روسيا باتت معنية بالإقليم أكثر من أي وقت مضى. وهو ما عبّرت عنه زيارة ​وزير الخارجية​ الروسي سيرغي لافروف الى الامارات والسعودية. واذا كان الروس يسعون للعب دور إقليمي، فإنهم يُظهرون أنهم يقفون على مسافة واحدة من كل الأفرقاء في الإقليم، لكن ضمن ثوابت رسّختها أدوارهم في سوريا طيلة سنوات مضت: حرب ضد الإرهاب، ورعاية مصالحات داخلية، والدفع نحو تسويات سياسية بين الدولة وقوى المعارضة، ومنع الأتراك من الإستفراد بسوريا، ولجم الكُرد ثم تشجيعهم على العودة إلى حضن الدولة السورية، وضبط قواعد الإشتباك بين السوريين والإسرائيليين.

تدل محادثات لافروف في ​دول الخليج​ أنّ روسيا قررت التقدم خطوات نحو رعاية تسويات إقليمية: موسكو وسيط فاعل ومقتدر. لكن تراكم الملفات الإقليمية يجعل المهمة الروسية أكثر دقة وأشد صعوبة. ومن هنا جاء تصريح لافروف موزوناً في السعودية، ينطلق من حرص موسكو على أمن المملكة. لذا، يمكن الجزم ان أولوية ​الرياض​ هي ساحة اليمن: كيف يمكن القيام بربط النزاع مع ​الحوثيين​؟ تستطيع موسكو ان تقوم بوساطة تشمل ​طهران​ بطبيعة الحال. القدرة متوافرة، لكن هل يتفرج الأميركيون من دون تدخل؟ أم يزيدون الضغوط على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لمنعه من مجاراة الروس؟ يستطيع الأخير أن يغيظ ​الإدارة الأميركية​ التي سعت إلى ضرب صورة بن سلمان بشكل أدى الى إهتزاز العلاقة التاريخية القائمة بين واشنطن والرياض. لذا، توجد مصلحة لولي العهد السعودي في وضع يده بيد الروس، لكن البداية الناجحة تفرض أن تنطلق من مقاربة جديدة للساحة السورية. يستطيع الأمير محمد بن سلمان أن يخطو خطوات الإمارات العربية تجاه دمشق. لا يوجد موانع، رغم ان السعوديين يرمون الكرة في ملعب السوريين بسبب حلف دمشق مع طهران.

سيشكّل قرار السعودية بإعادة الوصل مع الشام ترسيخاً لعلاقة طيبة مع الروس، وتنشيط الدور العربي الذي سحقته تركيا بدفع قطر التي أطاحت يومها بجامعة الدول العربية عبر تجميد عضوية سوريا، ثم حاولت وقتها فكفكة كل عناصر القوة عربياً من خلال محاربة مصر والإمارات عبر تنظيم "الإخوان المسلمين".

لذا، تتوافر المصلحة الخليجية بملاقاة روسيا في منتصف الطريق: سوريا. ومن هنا سيكون الإمتحان الأول هو بدفع الكرد للعودة الى حضن الدولة السورية في مواجهة المخاطر التركية. بعدها تكرّ التسويات الإقليمية برعاية موسكو. فماذا عن لبنان؟

سيتأثر البلد بأي خطوة تسووية في الإقليم، لكن لا وجود لمؤشرات توحي بأن ​تأليف الحكومة​ سيتم سريعاً خلال الأيام المقبلة. قد يكون إشتداد التوتر في الشارع يدفع للإعتقاد أن حدّة الأزمة تفرض تنازلات وتستولد الحل، لكن كل فريق لا يزال يتمسك بمواقفه في ظل غياب الحضانة الخارجية العربية او الأجنبية التي تستطيع أن تغيّر السلوك اللبناني، كما حصل في مؤتمر الدوحة منذ ١٣ عاماً.

وإذا نجح الروس في صياغة تسويات إقليمية سريعة، فإن تردداتها ستصل الى لبنان. لكن من السابق لأوانه حسم التوجهات في هذا المجال.