العَلاقَةُ بينَ المُؤمِنِ والأيقُونَةِ وَطِيدةٌ جِدًّا وهي مُتَجَذِّرَةٌ في عُمقِ الإيمانِ المَسيحيّ مُنذُ الأيَّامِ الأُولى لِلمَسيحِيَّة. فكما الكَلِمَةُ المَكتُوبَةُ في الأناجِيلِ، كَذلكَ هِيَ الكَلِمَةُ المَرسُومَةُ في الأيقُونة. وكما أنَّ الإنجيلَ مُقَدَّسٌ، فالأيقُونَةُ أيضًا مُقَدَّسة. ومَن أساءَ الفَهمَ تَقولُ له الكَنيسةُ، لَيسَ الوَرَقُ في الكِتابِ المُقَدَّسِ مُقَدَّسًا ولا الحِبرُ، بل مَا تَحمِلُهُ الكَلِماتُ مِن معانٍ.

وهذا حالُ الأيقُونَةِ، فلا الخَشبُ هوَ المُكَرَّمُ ولا الأَلوانُ بَل ما تُمَثِّلُه، لِهذا دَعا الآباءُ القِدِّيسونَ الأَيقُونَةَ نافِذةً إلى المَلكوت. فهي صَفحةٌ مَلَكُوتِيَّةٌ وكُلُّ ما تُمَثِّلُهُ إلهيٌّ، أكانَ الرَّبَّ يَسوعَ المسيحَ أو والِدةَ الإلهِ أو القِدّيسينَ أو أحداثًا إنجيليَّةً أو آياتٍ وشِفاءاتٍ وعَجائب.

والأيقونةُ هي شَهادةٌ أنَّ عَلاقَةَ ​الإنسان​ِ واللهِ هَدَفُها التَّألُّه. وهذا البُعدُ شَوقٌ وتَوق، فحَتّى المُعتقدَاتُ الوَثنيَّةُ لم تُغفِلْ هذا العُمقَ، وتَجلَّى ذلك في مآثِرِها الفنيّة والفكريّة. وهذا أمرٌ طبيعيّ إذ إنَّ الإنسانَ، أَمُدرِكًا ذلك كان أم غيرَ مُدرِك، هُوَ في بَحثٍ دائمٍ عن خَالِقِه.

كذلك نَقرأُ في التَّعابيرِ الفَلسفِيَّةِ عِندَ كثيرٍ مِنَ الفَلاسِفَةِ كـ"كارل ماركس" مثلًا، الذي تَأثّرَ كثيرًا بِبَحثِ الفَيلسوفِ الألماني Ludwig Feuerbach (١٨٠٤-١٨٧٢م) عَن وُجودِيَّةِ الله "جَوهَرِ المَسيحيّة"، نقرأُ تَعابيرَ إلهيَّةً عَن صِفاتِ الإنسان، عِلمًا أنَّ Ludwig تاهَ في بَحثه.

حتّى إنَّ الفَيلسُوفَ الفَرنسيَّ الحَديثَ "جان بول سارتر"، يَقولُ عنِ الإنسانِ بِأنَّهُ "مَشروعٌ Projet"، ولَكِنَّهُ لم يُصِبِ الهَدفَ عِندما قَالَ "L'existence précède l'essence" أي الوُجودُ يَسبِقُ الجَوهَر، ومَعناهُ أنَّ كُلَّ فَردٍ يَظهَرُ في العَالَمِ في البِدايَةِ مِن دُونِ هَدَفٍ أو قِيَمٍ مُحدَّدَةٍ مُسبَقًا، ثم خِلالَ وُجودِهِ، يَتِمُّ تَعريفُهُ مِن خِلالِ أفعَالِهِ الّتي هيَ مَسؤولِيَّتُهُ، وبِالتَالي تُعَدِّلُ جوهَرَه.

بَينما المَسيحيَّةُ تُعلِنُها صَراحةً، لا يُمكِنُ للإنسانِ أن يَبلُغَ الهَدفَ المَنشودَ مِن وُجُودِهِ إلّا بِالرُّجوعِ إلى مَقصَدِ اللهِ مِن خلقِ الإنسانِ، أي أن يُصبِحَ مَسيحًا بِالنِّعمةِ الإلهِيَّة.

وهذا ما دَفَعَ القدّيسَ العَظيمَ غريغوريوس بالاماس (١٢٩٦-١٣٥٩م) للقَولِ في عُمقِ إيمانِهِ "أنا الّذي هو"، أي إنَّ غايَةَ وُجودِه أن يُصبِحَ مَسيحًا، لأنَّ اللهَ خَلَقَنا على صُورَتِهِ كَشَبهِهِ، وتركَ لنا الحُريَّةَ الكامِلةَ لِتحقيقِ هَذا الشَّبه Celui Qui Est.

وتؤكّدُ المسيحيّة على أنَّ الإنسانَ بِتألُّهِهِ وبِاكتِسابِهِ لِلفَضائلِ يَتَّحِدُ بِاللهِ الّذي يُكَمِّلُهُ، خلافًا لما اعتَقَدَهُ كثيرٌ مِن هَؤلاءِ البَاحِثينَ بأنَّ اللهَ يَتَحَوَّلُ إلى كائنٍ سلبيٍّ لا حاجةَ للإنسانِ إليهِ. واللهُ ليسَ مبدأَ خلاصٍ فَحسب، بلِ الخَلاصُ بِحَدِّ نفسِهِ. وهنا يَكمُنُ كُلُّ الفَرق.

صحيحٌ أنَّ ملكوتَ اللهِ في دَاخِلِنا، لَكِن إن سَمَحْنا لِلرُّوحِ القُدُسِ أن يَعمَلَ فينا، نَكتَشِفُهُ ونَرتَقي ونَتَّحِدُ بِالنُّورِ غَيرِ المَخلُوق. فنحن لا نَنجَذِبُ لِلدّينِ بِالمَعنى الاجتِماعيّ بَل لِوَجهِ اللهِ القُدُّوسِ، لِنُصبِحَ أقمَارًا تَعكِسُ نُورَ الشَّمسِ، نَورَ المَسيح. وهذا ما تُظهِرُهُ الأيقُونةُ في وُجُوهِ القِدِّيسين.

في أّوَّلِ أَحَدٍ مِنَ الصَّومِ الّذي هُوَ أحدُ الأُرثُوذُكسيَّة، نُقيمُ تَذكارَ انتِصارِ الإيمانِ المُستَقِيمِ بَعدَ حربٍ ضِدَّ الأيقُوناتِ دامَت مائةً وعِشرين عَامًا (في القَرنين الثّامن والتّاسع). في هذا النَّهارِ نُشاهِدُ كِبارًا وصِغارًا يَحملون الأيقُوناتِ الّتي جَلَبُوها مِن مَنازِلِهم، يَسيرونَ في زيَّاحٍ مَهيبٍ خَلفَ الكَهَنَةِ، والإنجيلُ في المُقَدِّمة، ويُنشِدُونَ الصَّلواتِ، ويَستَذكِرون مَا أعلنَتْهُ الكَنيسَةُ في المَجمَعِ المَسكُونيّ السّابع (٧٨٧م)، الذي ثَبَّتَ تَكريمَ الأيقُوناتِ "الّذين يُقِرُّونَ بِحُضورِ كَلِمَةِ اللهِ بِالجَسَدِ مُعتَرِفينَ بِالقَولِ والفَمِ والقَلبِ والعَقلِ بِالكِتابَةِ والأيقُوناتِ، فَليَكُن ذِكرُهم مُؤبَّدًا".

فَجُمهورُ المُؤمِنينَ الخَارجُ بِأيقونَاتِه المُقَدَّسَةِ مَا هُوَ إلا امتِدادٌ حَيٌّ للإيمانِ الذي تسلَّمناهُ مِنَ الرَّبِّ يَسوعَ، ونَقلَهُ إلينا الرُّسُلُ الأطهار. ولا بُدَّ لنا هُنا مِنِ استِذكارِ الشَّعبِ الرُّوسِيّ في زَمنِ الشُّيوعِيَّةِ الّذي طَمرَ تحتَ التُّرابِ ما استَطاعَ أن يُنقِذَ مِن أيقُوناتٍ لديهِ، كي لا يُحرِقَها الشُّيوعِيّون. وبعد حوالي سَبعينَ عَامًا عادَ حامِلًا الأيقُوناتِ إلى الكَنيسَةِ وهُوَ يُمَجِّدُ الله.

نعم كُلُّ حياتِنا انتصارٌ بِالرَّبِّ يسوعَ المَسيحِ، وهكذا نُعلِنُ جِهارًا: "هَذا إيمانُ الرُّسُلِ، هذا إيمانُ الآباءِ، هذا إيمانُ المُستَقيمي الرّأي، هذا الإيمانُ قد وَطَّد المَسكونة". آمين.