الأبُ هُوَ الوالِدُ وفي اللّاهوتِ هُو مَن يَلِدُ أبناءً للمَلكُوت. مِن هنا لَيس كُلُّ أبٍ والِدًا، ولا كُلُّ مَن له أبناءٌ بيولوجيّونَ أبًا.

وقد حَرِصَتِ الكنيسةُ على أن تَدعُوَ المُتقدِّمَ رُوحِيًّا أبًا، وهُوَ أيضًا ابنٌ روحيٌّ لأبٍ روحيّ، إذِ القاعِدَةُ هُنا ثَابتة، لا يُمكِنُ لأحدٍ أن يَكونَ أبًا إذا لم يَكُنِ ابنًا.

هذا جَلِيٌّ في إيمانِنا، فبُولُسُ الرَّسولُ يقول: "أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ"(١ كورنثوس ١٥:٤).

في رِحلَةِ الصَّومِ الأربَعِينيّ المُبارَكِ مَحطّاتٌ، وفي كُلٍّ منها زَوّادَة. ومَحطَّةُ هذا الأحدِ آبائيَّةٌ بِامتيازٍ مَعَ قِدّيسٍ مُستَنيرٍ يُدعى "غريغوريوس بالاماس"(١٢٩٦-١٣٥٩م)>

هو أبٌ هُدوئيٌّ مَارَسَ الصَّلاةَ القَلبِيَّةَ، وأُنتُدِبَ لِيُدافِعَ عنها في وجهِ مَن حَصَرَ معرِفَةَ اللّاهوتِ بِالفِكرِ والعَقلِ فقط، وازدرى النُّورَ الإلهيَّ غيرَ المَخلوقِ، الذي يَنحَدِرُ على المُصَلّي الحَقِيقيّ ويُؤَلِّهُه.

في مَحطَّةِ "بالاماس" نحن أمامَ أمرَين: الهُدوئِيَّةHesychame ، والذِّهنُ المُستَنيرL’intellect ، و​الإنسان​ُ في صِراعٍ دائمٍ معهما.

نَحنُ في عَصرِ السُّرعَةِ، الّذي له فَوائِدُهُ الجمَّة، أمّا ما هُوَ مؤذٍ فيهِ أن يُصبِحَ الإنسانُ في هَيجانٍ مُستمِرٍّ كأنَّهُ في سِباقٍ مَعَ الزَّمَن.

فمِنَ اللَّحظَةِ الّتي يَستيقِظُ فيها المَرءُ حتّى لحظَةِ نَومِه، يكونُ كَالرَّاكِبِ في القِطارِ السَّريعِ يرى مِن نافِذَتِه كُلَّ شَيءٍ يَمُرُّ بِسُرعَةٍ مَهولة.

وهذا ما يَجعلُ الإنسانَ في وَضعٍ مُضطَرِبٍ وخَوف. حالُهُ هذا كحالِ التّلاميذِ الّذين كانُوا في السَّفِينةِ عِندما هَبَّت رياحٌ شَديدةٌ، وهاجَ البَحرُ، وكادُوا يَغرَقُون. ولم يَعرِفُوا الخَلاصَ الّا عِندمَا دخلَ يَسوعُ سَفينَتَهم فهَدَأَ كُلُّ شَيء.

هَذِهِ هي الهُدُوئيّة. نَكونُ في وسَطِ العَواصِفِ، لكنَّنا نعيشُ بسلامٍ لأنَّ يسوعَ دَاخِلَنا، نَسمَعُ صَوتَهُ ونُمسِكُ بِيَدِه، فنمتَلِئُ سلامًا، ولا نَكونُ مُشتَّتِينَ بَعدُ، ولا نَتخَبَّطُ كغريقٍ لا يَستَطيعُ النَّجاة.

إنَّ اكتِسابَ الهُدوئِيَّةِ يَتطلَّبُ جِهادًا دُونَ كَلَل، كَي يُضبَطَ العَقلُ وكُلُّ الحواسِّ، فيستَنيرَ الذِّهنُ ويُصبِحَ الإنسانُ جبلَ صَلاةٍ ومَحَبَّة، واحِدًا مِنَ الدَّاخِل، ثَابِتًا وغيرَ مُشتَّتٍ، في تَناغُمٍ كُلّيٍّ مَعَ اللهِ خَالِقِه. حتّى إنَّنا إذا التَقَيناهُ يَنعَكِسُ علينا شيءٌ مِن سَلامِهِ، ونَعي كم أنَّنا نفتَقِدُ هذا الهدوء.

تَكثُرُ الدِّراساتُ الاجتِمَاعِيَّةُ، والنَّصائِحُ الطِّبيَّةُ والإرشَادَاتُ النَّفسِيَّةُ الّتي تُعالِجُ مَوضُوعًا مُهِمًّا جِدًّا وهُوَ الإيقَاعُ التي تَسيرُ عليهِ حَياتُناLe Rythme de vie، وذَلِكَ بِهَدفِ أن يَكونَ إيقَاعُنا جَيِّدًا En forme.

هُناكَ تَجرِبَةٌ عِلمِيَّةٌ حَدَثَت في العام ١٩٦٢م، قامَ بِها عَالِمٌ جِيولُوجيّ فَرنسيّ، إذ مَكَثَ شهرَين في غُرفَةٍ تَحتَ الأرضِ بِعُمقِ ١٠٠م، لا يَصِلُها نُورُ الشَّمس، فقط الكَهرُباء، وليس معه ما يدلُّه على الوقت.

بَعدَ خُروجِهِ كان يَعتَقِدُ أنَّهُ يَعرِفُ التَّوارِيخَ والأَوقَاتَ بِدِقّةٍ، ولكنَّ المُفاجَأةَ كانت أنَّ عَقلَهُ شَطَّ بِالكامِلِ، وضَاعَت بُوصلتُهُ، لا بل أَصبَحَ في ضَياعٍ دَاخِلي. مَعَ العِلمِ بأنّه كان يُجري اتِّصالًا مرّتين في اليوم، الأوّل عندَ استِيقاظِهِ، والثّاني قبلَ خُلودِهِ إلى النَّوم، طبعًا مِن دُونِ أن يُطلِعَهُ أحدٌ عَلى الوَقت. فكان يَعتَقِدُ أنَّ يومَ خُروجِهِ هُوَ ٢٠ آب، بَينَما التَّاريخُ الحَقيقيّ كانَ ١٤ أيلول.

وهنا يؤكِّدُ الأطِبَّاءُ وُجودَ نوعَين مِنَ السَّاعاتِ البِيولوجِيّة عِندَ الإنسان. الأُولى كِنايةٌ عن سَاعَةٍ مَركَزِيَّةٍ في الدِّماغِ تَضبُطُ الوَظائِفَ الدّورِيَّةَ الدَّاخِلِيَّةَ مِن خِلالِ الهُورمُونات، والثّانية ساعاتٌ دَاخِلَ كُلِّ عُضوٍ في الجِسمِ (الرِّئتين، القلب، الكَبِد...)، وظِيفتُها تَحسينُ أدائهِ بِالتَّناغُمِ مَعَ الأعضَاءِ الأُخرى. صَحيحٌ أنَّ النَّوعَ الثّاني يَعمَلُ بِشَكلٍ مُستَقِلٍّ، إلّا أنَّهُ يَحتاجُ إلى إعَادَةِ ضَبطٍ باستِمرارٍ مِن قِبَلِ السَّاعَةِ المَركَزِيَّة.

وَالسُّؤالُ الجَوهَرِيُّ: مَا الّذي يُنَظِّمُ السَّاعَةَ المَركَزِيَّة؟ الجَواب: نور ​الشمس​. وهَذا ما جَعلَ العَالِمَ الفَرنسيَّ يَتنَاوَلُ فَطورَهُ في السَّاعةِ السَّابِعَةِ مساءً ظانًّا أنَّها السَّابِعَة صَباحًا.

فمِن دُونِ النُّورِ الطّبيعيّ تَنحَرِفُ ساعتُنا المَركَزِيَّةُ البِيولُوجِيَّةُ عَن مَسارِها الطَّبيعي. وهذا يُوَلِّدُ فَوضى كَبيرةً في الجِسمِ، تَنتُجُ عَنها أمَراضٌ جمَّة. وقد قامَ المَركَزُ العَالَميُّ للأبحَاثِ السَّرطَانِيَّةِ بِدِراساتٍ كثيرةٍ، تقولُ إنَّ الأمر يَنتَهي بِخَلايا سَرَطَانِيَّةٍ تَقتُلُ الإنسانَ مِنَ الدَّاخِل.

هذا على الصَّعيدِ الجَسديّ، فَكَم بِالأحرى إذا انحَدَرَ الإنسانُ بِخَطاياهُ مِن دُونِ أن يَتوبَ عَنها، وعزلَ نفسَهُ عَنِ النُّورِ الإلهيِّ المُحيي، فكيفَ سَيكونُ حالهُ عِندَئِذٍ؟.

وإذا سَألنا، هَل مِن ساعَةٍ رُوحِيَّةٍ دَاخِلَ كُلِّ واحِدٍ مِنَّا، تَضبُطُ حَياتَهُ وتُساعِدُه على سُلوكِ الدَّربِ الصَّحيح؟ يُجيبُنا الرَّبُّ بِقَولِهِ: "مَلَكُوتُ اللهِ دَاخِلَكُمْ"(لوقا ٢١:١٧).

فَسِيرَةُ الآباءِ القِدّيسينَ مِثالٌ حَيٌّ لَنا في السَّعي لاكتِشافِ هَذا المَلكُوتِ النُّورانيّ، إذ بِدُونِهِ شَطَطٌ وتَيَهانٌ وظُلمةٌ ودَيجُور. أمَّا إذا بلغناهُ فننالُ حياةً أبديَّةً مَعَ الرَّبِّ يَسوعَ ​المسيح​. إلى الرَّبِّ نَطلُب.