تنعكس الازمة السياسية الكبيرة في ​لبنان​ على الحياة اليومية للبنانيين الذين باتوا يقلقون حول كيفية تمضية نهارهم في اقل قدر ممكن من الخسائر، ووسط حيرة كبيرة في ايجاد الاساليب الكفيلة بتأمين القوت والامور الاساسية لعائلاتهم، حتى ان بعضهم يفتقد الى القدرات لشراء المواد الغذائية لتحضير الطعام. هذا الانعكاس، طاول ايضاً الطبخة الحكوميّة، التي يمكن تجسيدها صورياً بأنها "طبخة" يتولاها رئيس الحكومة المكلّف ​سعد الحريري​، انما في مطبخ رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​، لانّ الحريري يشكو من أنّ عون لا يؤمّن له الامور اللوجستية المطلوبة والكفيلة بتحضير الطبخة، ويقول (اي الحريري) انه قد امّن كل المواد اللازمة لكي تنتهي الطبخة سريعاً اذا ما كان عون متعاوناً. في المقابل، يصرّ رئيس الجمهورية على انه يضع بتصرف الحريري مطبخه وكامل العدّة المطلوبة، ولكنه يشترط الاّ تكون المواد التي تتكوّن منها الطبخة، مضرّة به، وبالاخصّ الا ترتبط من قريب او من بعيد بأرانب رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ التي تخرج من قبعته عند كل استحقاق او مشكلة. هذه باختصار المشكلة الداخليّة للحكومة، اما المشكلة الخارجية فأمر آخر. ولو كانت الامور مقتصرة فقط على اللاعبين المحليين، لبقينا ايضاً نراوح مكاننا، فالعراقيل التي توضع ستكون نفسها مع فارق مهم وهو انها لن تزول بسرعة، فيما التدخل الخارجي عند اللزوم كفيل بإزالة المعوقات الداخليّة بين ليلة وضحاها.

ومنذ ايام قليلة، وبعد التعقيدات التي طرأت على الملف الحكومي، كان الترويج لمبادرة جديدة لبري لتفعيل الموضوع وتحريك المياه، غير أنّ التيار الوطني الحرّ سرعان ما أحبط هذه المحاولة عبر استهداف رئيس الحكومة المكلّف واتهامه بأنّه يعمل على حلّ جديد يؤمّن له النصف زائد واحد للعمل على تطيير التحقيق الجنائي المالي. أرنب بري هذه المرّة لن يعطي مفعوله، وما الانقسام السياسي الداخلي سوى دليل واضح على عدم قدرة أي فريق فرض نفسه على الآخر، وعلى استعداد لدى الجميع لخوض المعارك حتى النهاية (أي بمعنى آخر حتى يتم فرض الحلّ من الخارج)، من هنا، يحاول عون استقطاب ​الدول العربية​ والغربية لمنع حصول أي محاولة لتطويقه دبلوماسياً ولافهام الحريري أنّه قادر على كسر الطوق الداخلي عبر اتصالات خارجيّة. في المقابل، يقترب الحريري اكثر فأكثر من البطريركيّة المارونيّة، لافهام عون بأنّه قادر على تأمين التوافقيّة الميثاقيّة طائفياً ولو لم تكن سيّاسية، أيّأنّ عدم وجود غطاء سياسي مسيحي له لا يعني بالضرورة رفع الغطاء المسيحي الطائفي عنه، وبأن ما حُرم منه في السياسة، يمكن تعويضه من داخل الطائفة.

اما برّي، فيقف كالعادة أبعد بخطوة عن غيره، ولكنّه يعمل بالسرّ والعلن لضمان بقاء الحريري في منصبه مهما كانت الامور، ووفق أيّ صيغة يمكنه ان يطرحها، فإنها تعني بصريح العبارة أنّه لن يرضى بغير الحريري رئيساً للحكومة أكانَ مكلّفاً ام فعلياً، ولن يقبل ايضاً بأن يكون لعون كلمة قويّة داخل مجلس الوزراء إنْ عبر التيار الوطني الحرّ او عبر وزراء مسيحيين يختارهم رئيس الجمهوريّة، وقد يعمد في هذا الاطار، الى "اعادة تسويق" الحريري لدى الفرقاء السّياسيين المسيحيين، اذا ما تطلب الامر ذلك، واذا كان الثمن تحجيم نفوذ عون والنائب ​جبران باسيل​، كي يجهّز المسرح الداخلي للحكومة فور توفر الحلّ الخارجي.

هذه المرّة لم يكثر الطباخون المحليّون، ولكن الطبخة لم تنجح لسبب آخر، وهي ستستمر في توفير الذرائع اللازمة لتمديد الأزمة، الى أن ينتهي الفرقاء الدوليون من "لعبتهم" لتقاسم النفوذ وتحديد الاحجام والمسؤوليات، لتنتفي عندها كل الحجج التي كانت قائمة لأشهر، وتصبح الطبخة نفسها وفي المطبخ نفسه، من أشهى المأكولات التي يتناولها المسؤولون.