"ذُوقُوا وَانْظُرُوا مَا أَطْيَبَ الرَّبَّ "(مزمور ٨:٣٤).

لو كان طعمُ الخطيئةِ لَذيذًا فلماذا إذًا يَبكي مرًّا مَن يَقَعُ فيها؟ وإذا كانَ طعمُ الربِّ مُرًّا فَلِماذا إذًا شَهِدَتْ قَوافِلُ مِنَ القِدّيسينَ أنَّ مذاقَ الربِّ أشهى مِنَ العَسلِ، وامتلأتْ قلوبُهم حَلاوة؟.

قد تكونُ القِدّيسةُ مريمُ المِصريّة (القرن السادس الميلادي)، التي سُمّي هذا الأحدُ باسمِها خيرَ جَواب.

هذه القِدّيسةُ أضحتْ أيقُونَةَ التّوبَةِ بعدَ أن كانَت عَاشِقَةَ الفُجورِ والفِسق. وقد تَغيَّرَتْ حياتُها بِالكُليَّةِ بعدَ أن قَصَدَتْ أورُشَليمَ ووقفت في صفّ الحُجّاجٍ تنتَظِرُ دورَها للتَّبرُّكِ منَ الصَّليب. ولَكِنَّها لم تَستَطِعْ اجتيازَ عَتَبةِ الكَنيسةِ بعدَ أن حَاوَلتْ أكثرَ مِن مَرَّة، إذ كانت قُوَّةٌ خفيّةٌ تَمنَعُها.

فانفتَحت بَصِيرَتُها في لحظةٍ، بعد أن شَاهَدتْ أيقُونةً لِوالِدَةِ الإله، وأَدرَكتْ على الفَورِ كم هِي مُنغَمِسةً بِالخَطيئةِ مِن رأسها إلى أسفَلِ قَدَمَيها.

فما كانَ مِنها إلّا أن أسرَعَتْ إلى البَريَّةِ، حيثُ قَضت هُناكَ حوالي ٤٧ سنةً، تبكي ندمًا على خطاياها. وقَبلَ أن تَنتَقِلَ مِن هذه الحياةِ التَقتْ راهِبًا نَاوَلَها القُدُساتِ وكَتبَ سِيرَتَها.

هذه القِدّيسةُ تَقولُ لنا بِالفَمِ المَلآن، ليستِ الخَطيئةُ الّتي تُبعِدُنا عَنِ اللهِ، بَلِ الإصرارُ عليها. "وإِنْ كَانَتْ خَطَايَانا كَالْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ إن تُبنا عن حق". (أشعياء ١٨:١).

الخَطيئةُ تَبدأُ مِن مَكانٍ ما. فَهي تَبحَثُ عن فَراغٍ في دَاخِلِنَا لِتَتربَّعَ فيهِ وتَبني أساساتِها وتَنطَلِقَ لِتتكاثرَ وتلِدَ بِالتّالي خَطايا أُخرى.

هنا جَوهَرُ المَوضوع. نَقرأُ في المَزمور ١١٩:"قَطَرَتْ نَفْسِي مِنَ الْحُزْن" (٢٨:١١٩).

الكلمةُ الأَصليَّةُ لِلحُزنِ في هَذهِ الآيةِ هي التَّكاسلُ وعَدَمُ الاهتِمام، وفي اللّاهوتِ عَدمُ الاهتِمامِ بِالذّات Acédie-Un manque de soin وهذا الإهمال يُولّد فراغًا.

فعِندَما يُهمِلُ الإنسَانُ حَقلَهُ يَنبُتُ فِيهِ الزُّوانُ ولا أَحدَ يُنَقّيهِ إلّا الفَلّاحُ المَاهِرُ والأَصيلُ الذي يَعرِفُ كيفَ يَحرُثُ أرضَه. هذه هِيَ الوِلادَةُ الجَدِيدَةُ لَنا إن تَرَكنا صَاحِبَ الكَرمِ الّذي هُوَ الرَّب يَحرُثُنا لِنُنبِتَ فِيهِ زَرعًا جَدِيدًا. ألَسنا هَياكِلَ الرُّوحِ القُدُسِ وهُوَ خَلَقَنا ويَسكُنُ فِينا؟.

قَد تَكونُ القِدِّيسةُ مَريمُ المِصريَّةُ تَركَتْ مَنزِلَ ذَويها في العُمرِ الثَّانيةَ عَشرةَ لِسَببٍ نَجهَلُه، ولَكِنَّها انجَرَفَتْ في بَحرِ الخَطِيئَةِ، وبَقِيتِ الهَارِبَةَ مِن ذاتِها إلى أن التَقَتْ بِمَن كانَ ينتَظِرُها، ألا وهُوَ المُخلِّص.

يَحضُرُني هنا قَولٌ للكَاتِبةِ الفَرنسِيَّةِ المُعاصِرة Claudie Gallay، مَفادُه:

"Tous à la recherche du même rêve. Fuyant le même quotidien. Pour un ailleurs." بِما مَعناهُ أنَّ الجَميعَ يبحَثُونَ عنِ الحَلمِ نفسِه. الهُروبُ مِنَ الحَياةِ اليَومِيَّةِ نفسِها. مِن أَجلِ حياةٍ أُخرى.

ولَكِنَّ السُّؤالَ، هل نَجِدُ مُرتَجانا في مَكانٍ ما، أم هُوَ مَوجُودٌ في أَعماقِنا؟ هل نُهمِلُ مَلكوتَ اللهِ في داخِلِنا ونَبحثُ خَارِجًا؟ فأينَ سَنَجِدُ الخَلاصَ والسَّلامَ والطُّمأنينَةَ والفَرَح؟ مُستحِيل!.

إهمَالُ الذَّاتِ هُوَ الحُزنُ الشَّديدُ بِعَينِه، وقد أَكَّدَ لنا الآباءُ القِدّيسُونَ ذلكَ مِن خِلالِ جِهادِهِم بِأنَّ هَذا مَرضٌ عُضالٌ، يَجعلُ مِن صَاحِبِه هَيكلًا مُشَرَّعًا لِجَميعِ الأهواءِ أن تَعصِفَ بِهِ، وتَجلِبَ لهُ الاضطِرابَ فَالحُزنَ فَاليأسَ، لِينتَهِيَ به المَطافُ بِفُقدانِ فَرحِ الحَياةِ، فلا يَكتَشِفُ أنَّ يَسوعَ هُوَ الحَياة.

​​​​​​​

وهَذا يَجعَلُ الإنسانَ مُتقَوقِعًا على نَفسِهِ وغيرَ منفَتِحٍ على الآخَرِ ولا على إلهِ الكَون، تَمامًا كَمنزِلٍ مُغلَقَةٍ نَوافِذُهُ، لا تَدخُلُهُ أشِعَّةُ الشَّمسِ الدَّافِئَة.

يَصفُ القِدّيسُ إفاغريوس البُنطي (٣٤٥-٣٩٩م) هذا الإهمالَ الرَّهيبَ بِشيطانِ الظَّهيرَةِ الّذي يَجلِبُ معه جميعَ أنواعِ الأفكارِ المُشَتِّتَةِ والمُهلِكة. ويشرَحُ أنَّ مَللَ الرُّوحِ يَجعلُ صاحِبَهُ يَشعُرُ كأنَّ الشَّمسَ لا تُشرِقُ، والنّهارَ لا يَنتَهي، فيَكرَهُ نفسَهُ ومُحيطَهُ، ويَتوهُ باحِثًا عن مَلجأ لا يجِدُه.

القِدّيسةُ مَريمُ المِصريَّةُ لم تَعُد خَطيئَتُها تُرويها، فَأسرَعَت تَبحثُ عَن مَلاذٍ جَديد، لَكِنَّ الصيَّادَ المَاهِرَ كانَ بِانتِظارِها. وبِلَمحَةِ بَصرٍ أشعَلَ فيها حُبَّ الحَياةِ الحَقيقيَّةِ، لِتَشعُرَ وفي لَحظَةٍ كم هي خَدَّاعَةٌ الخَطِيئَة، وكم هي نَتِنَةٌ ومُرَّةٌ في أعمَاقِ النَّفس.

لولا أنَّها شَعَرَت بحلاوةِ مَذاقٍ جديد لم تتذوَّقه يومًا، لكانَ مِنَ المُستَحيل أن تبدأَ مسارًا جديدًا.

فلا شيءً يُشبِعُ الذَّاتَ إلّا اقتِبالُ الإلَهِيَّات، وهذا لا يَتِمُّ إلّا بِتَناغُمٍ ومُؤازَرَةٍ كامِلَةٍ بينَ الحالَتَين البَشرِيَّةِ والإلَهِيَّة. فبِصَيرُورَةِ المَسيحِ إنسانًا بَنى لنا هَذا الجَسرَ الّذي مِن خِلالِهِ نَعبُرُ مِن حَالَةِ الاهتِراءِ إلى حَالَةِ النَّضارَة. وهذا ما ادهَشتْنا بِهِ هذه المُعلِّمَةُ المِصرِيَّةُ الكَبيرة.

مَن يُحبُّ الأدبَ الفَرنسيَّ لا يُمكِنُه إلّا أن يتوقّفَ عندَ ما كتَبَهُ Charles Baudelaire، في مُدوَّنَتِهِ "Les Fleurs du mal "(أزهارُ الشَّر).

أختارُ منها هذه الأبيات: "الحُمقُ والضَّلالُ والإثمُ والشّح، تَحتلُّ نفوسَنا وتُجھد أجسامَنا، ونحنُ نُغَذّي النَّدمَ فينا، كما يُغذِّي المُتسَوِّلُ الطُّفيليَّاتِ الّتي تتغَذّى مِن دَمِه. آثامُنا عَنیدةٌ ونَدمُنا جبانٌ، ونحن نَدفَعُ غَالیًا ثَمنَ اعترافاتِنا، ونَخوضُ طريقَ الوَحلِ مُغتَبِطِينَ، ونَعتَقِدُ أنّنا بِالدُّمُوعِ نَدفَعُ ثَمنَ أخطائِنا".

ويُنهي هذا المَقطعَ الشِّعريَّ بِالقَولِ: "إنّهُ الضَّجرُ الّذي يَحلُمُ بِالمِشنَقَةِ وهُوَ يُدَخِّنُ نَرجيلتَه. إنّهُ الغُولُ النَّاعِمُ الأكثرَ شراسَةً مِن كُلِّ الوُحوشِ والعَقارِبِ، الّذي بِجَولَةٍ واحِدةٍ يَصنَعُ منَ الأرضِ أنقَاضًا".

وفي المُدَوَّنَةِ نفسِها، تَوقَّفَ عِندَ وَسوَساتِ إبليسَ قائلًا: "على وِسادَةِ الشَّرِّ يُهَدهِدُ الشَّيطانُ لِرُوحِنا المَسحُورَةِ، ويَجتَثُّ مِن نُفوسِنا مَعدنَ الإرادَةِ النّفيس... وفي كُلِّ يَومٍ نَهبِطُ لِنقتَرِبَ خُطوةً مِن جَهنَّمَ دُونَ اشمئزازٍ عَبرَ ظُلماتٍ نَتِنة".

كَلِماتُهُ قاسِيةٌ جِدًّا ولكن مَهلًا، ألا نُعاني مِن هذا التَّشَتُّتِ الهَادِم، والّذي يَجعلُنا نَتُوهُ عن الحَقِّ والحَياة؟.

يَقُولُ الطِّبُّ الحَديثُ إنَّ Acédie واليأسَ والإهمالَ إخوَة.

كما كَتَبت Anne Larue، الباحِثةُ في تَارِيخِ الفَنِّ المُعاصِرِ بِأنَّ هذا المَرضَ مُسيطِرٌ على حَياتِنا اليَومِيّة، واصِفةً ايّاهُ كالتّالي:

يظهَرُ هذا المرضُ عندما نَستيقِظُ ونُدخِّنُ ونُجيبُ على الهاتِفِ مِن دونَ أيِّ تَركيزٍ، وعِندما نَعمَلُ بِجُنونٍ حتّى نَموتَ مِن الإجهادِ دُونَ سببٍ واضِح، وعندما نُفَكّرُ في اللهوِ لأنَّ الحَياةَ قصيرَةٌ، وعِندما لا يستَطيعُ المَرءُ البَقاءَ في سَلامٍ مَعَ نفسِه، في كُلِّ ذلكَ هُوَ المرضُ عينُه. وهو أيضًا في التَّفكُّكُ الفَرديُّ والأُسَريُّ والمُجتَمَعِيّ، وفي رَفضِنا للإصغاءِ والتَّواصُلِ والمُشارَكة. هُو يَجعَلُنا كالإلَهِ الإغريقيّ Eros الّذي لا تُشبِعُهُ لذَّة".

هذا ما تريدنا الكنيسةُ أن نستخلِصَهُ في هذا الأحَد، لا شيءَ يُروينا ويُشبِعُنا إلّا كلمةُ اللهِ الحَيّ الرَّبُّ يسوعُ المسيحُ له المَجد.