يوم استقبلت العاصمة الروسية ​موسكو​ وفدًا يمثّل "​حزب الله​" قبل أسابيع، قيل إنّ للزيارة أبعادها وحساباتها البعيدة، أو بالحدّ الأدنى غير المحصورة بالواقع ال​لبنان​ي الداخليّ، بل إنّ القضايا الإقليمية هي التي غلبت عليها، خصوصًا ما يتعلق منها ب​الأزمة السورية​، حيث يبرز "تقاطع المصالح" بين الجانبيْن، بشكلٍ أو بآخر.

لكنّ الصورة بدأت تختلف شيئًا فشيئًا، ليتكرّس عمليًا "نواة" ما يمكن وصفه بدور روسي في لبنان، من خلال زيارة رئيس ​الحكومة​ المكلَّف ​سعد الحريري​ إلى موسكو، وهي زيارة بدت "مفصليّة"، بعيدًا عن "الشكليّات" التي أحاطت بها، وتصدّرت "أجندة" البعض في الداخل، في ترجمةٍ لاشتباك سياسيّ يبدو بلا أفق.

ولعلّ ما تسرّب، على هامش لقاءات الحريري، عن سلسلة زيارات لمسؤولين لبنانيّين إلى موسكو يرتّبها المسؤولون الروس، يعزّز هذا الاعتقاد، لا سيّما أنّ أولى الزيارات المطروحة على الطاولة ستكون لرئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير السابق ​جبران باسيل​، على أن تكرّ السبحة، لتشمل النائبين السابقين ​وليد جنبلاط​ و​سليمان فرنجية​ وغيرهما.

وإذا كانت زيارة باسيل المفترضة تأتي بعد "إرجاء"، أو ربما "إلغاء" زيارته التي كانت مقرّرة إلى ​باريس​ في الآونة الأخيرة، فإنّ علامات استفهام تُطرَح حول "جوهر" الوساطة الروسية القائمة، خصوصًا أنّ لا مؤشرات توحي بأنها تأتي "بالتنسيق" مع الفرنسيّين، أو لـ"تكمّل" مبادرتهم في لبنان، في ضوء التوتر المستجدّ بين موسكو والغرب.

موسكو "تبادر"

قد تختلف الآراء حول "ماهيّة" الدور الذي تحاول ​روسيا​ أن تلعبه في لبنان، بين من يعتقد أنّ جهودها لا ترقى إلى مستوى المبادرة، وهي مجرّد ​سياسة​ "انفتاح" على مختلف الأفرقاء، بما يتناغم واهتمام موسكو بمنطقة ​الشرق الأوسط​ بصورة عامة، ومن يعتقد أنّ الأمر يتعدّى هذه "الشكليّات"، لصالح وساطة حقيقيّة وجدّية لا لبس فيها.

ويتقاطع الرأيان عند عدم التشكيك بوجود محاولةٍ روسيّة، يكبر أو يصغر حجمها، لإحداث "خرقٍ ما" في الواقع اللبناني، استنادًا إلى شبكة العلاقات "المميّزة" التي تحظى بها موسكو مع مختلف الأطراف والجهات الداخليّة، والتي يمكن أن توظّفها بما يتيح تقريب وجهات النظر، الأمر الذي يشكّل في مكانٍ ما "مفتاح" الحلّ الذي يتوق إليه اللبنانيّون في هذه المرحلة، بعدما شكوا من "جليد" يأبى الأفرقاء "كسره" تحت أيّ ظرف من الظروف.

ولعلّ شبكة العلاقات هذه تمنح روسيا "امتيازًا" مقارنة بغيرها من دول الغرب، بما فيها ​فرنسا​ التي عجزت حتى اليوم عن فرض تنفيذ مبادرتها، فعلاقتها مع رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري جيّدة جدًا، بما يفسّر "الحفاوة" التي لقيها الأخير في الأيام الماضية، ولكنّها على القدر نفسها مع خصومه أيضًا، من "حزب الله" الذي تجمعه بموسكو "مصالح متبادلة"، إلى الوزير السابق جبران باسيل، الذي يبدو أكثر "ارتياحًا" للروس من نظرائهم الغربيّين.

لهذه الأسباب، يبدو أنّ موسكو، وفق ما يرى العارفون، قرّرت أن "تبادر" لبنانيًّا، علمًا أنّ هناك من يعتقد أنّ الدخول الروسي ليس وليد اليوم، بل يعود إلى ما قبل زيارة وفد "حزب الله" إلى موسكو، إلا أنه اقتصر وقتها على "جسّ النبض"، بانتظار "الفرصة" التي يعتقد الروس أنّها قد تكون ملائمة اليوم أكثر من السابق، خصوصًا في ظلّ وصول المبادرة الفرنسيّة إلى "حائط مسدود"، ولو عاند المعاندون وكابر المكابرون.

لا تنسيق ولا من يحزنون

لكن، من أين ينطلق الروس في مساعيهم للحلّ والربط في لبنان؟ هل يؤسّسون على ما حقّقته المبادرة الفرنسيّة، وبالتالي تأتي جهودهم مكمّلة لتلك التي بذلها الفرنسيّون؟ وانطلاقًا من ذلك، هل يمكن الحديث عن "تنسيق" حقيقي بين الجانبين، بحيث تأتي الجهود "متكاملة" لتصل بالجميع إلى "برّ الأمان"؟

صحيح أنّ لا إجابة "حاسمة" في هذا الصدد، في ظلّ التفاوت في الآراء، إلا أنّ الاعتقاد يبدو أكثر ميلاً لدحض فرضية "التنسيق" لصالح وجهة نظر "الجهود الفردية"، المنفصلة عن سياق أيّ مبادرة من هنا أو هناك، لاعتقاد موسكو بأنّ المبادرة الفرنسيّة أخذت فرصتها، ولا بدّ من محاولات أخرى تُبذَل، وبإطار مختلِف، بعيدًا عن "قيود" قد تكون كبّلت المحاولات السابقة، من حيث تعمّد رعاتها أو لا.

وتتعزّز هذه الفرضية بالنظر إلى الأجواء الإقليمية غير المساعدة على توافق روسي-غربي عمومًا، وروسي-فرنسي خصوصًا، فالعلاقة مع موسكو والغرب تكاد تكون في أسوأ أحوالها، على وقع التوتر مع ​أوكرانيا​، واصطفاف الأوروبيين والأميركيين الواضح على خطه، أو حتّى على صعيد قضية المعارض الروسي ألكسي نافالني، ورفض موسكو لما تسمّيه "تدخّلاً" من الدول الأوروبية في شأن داخليّ "سياديّ".

وما يؤكد هذا الرأي ما صدر عن باريس في اليومين الماضيين، بما لا يوحي بـ"تناغم وانسجام"، فالرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​ تحدّث صراحةً عن "استعداد" بلاده لفرض ​عقوبات​ على موسكو، ووزير خارجيته جان إيف لو دريان حمّل الرئيس ​فلاديمير بوتين​ شخصيًا مسؤولية أيّ سوء يتعرّض له المعارض نافالني، ما يدفع إلى الاعتقاد بأنّ أيّ مبادرة يطلقها الروس في لبنان، ستكون بمعزلٍ عن أيّ جهد آخر، بل ربما في إطار البحث عن دور، ولو تطلّب ذلك "التشويش" على المبادرات الأخرى المطروحة على الطاولة.

"المحكّ" الأساسيّ

يرى البعض أنّ أيّ مبادرة جديدة في لبنان، سواء كانت روسية أو غيرها، لا بدّ أنّ تنطلق ممّا انتهت إليه المبادرة الفرنسية، سواء "تحصّنت" بتنسيقٍ بين الوسطاء أم لا، لأنّ الأخيرة فرضت "قواعد لعبة" قد لا يكون مُتاحًا "الانقلاب" عليها في هذه المرحلة.

ويذهب أصحاب هذا الرأي إلى الاعتقاد بأنّ أيّ جهود تُبذَل لا بدّ أن تكون "مكمِّلة" للمبادرة الفرنسية، لأنّها ببساطة وضعت أساس الحلّ الذي لا يمكن الانحراف عن مساره، وعنوانه حكومة إنقاذ ذات مصداقية وقادرة على تطبيق الإصلاحات.

ولكن، في غمرة الخلاف حول شكل المبادرة وطبيعة ​الدولة​ "الفائزة" بشرف النجاح، يبقى "المحكّ" الأساسي مرتبطًا باللبنانيين أنفسهم، الذين تبقى "المبادرة" الفعلية على عاتقهم هم، فإما يسهّلون الحلّ، من دون حاجة لوساطات أصلاً، وإما يعقّدون الأمر أكثر، كما يفعلون، فتصبح كلّ الوساطات بلا قيمة...