لا أحد يُمكنه التكهّن بما سيحدث في لبنان خلال الأشهر القليلة المُقبلة، حيث يُحكى عن سباق مُحتدم بين الجُهود الرامية إلى تشكيل حُكومة جديدة، وفوضى الإنهيار الشامل الذي قد يتفجّر عند رفع الدعم. وبين هذه النظريّة وتلك، هناك أيضًا من يتحدّث عن "سيناريو" ثالث، يتمثّل بإستمرار الدوران في الحلقة المُفرغة-إن ولدت الحكومة قريبًا أم لم تُبصر النور، مع إتخاذ خُطوات ماليّة قسريّة، لتأجيل قرار رفع الدعم مرّة أخرى. وأصحاب هذه النظريّة الثالثة مُقتنعون بأنّ الوضع في لبنان سيستمرّ غير مُستقرّ، في إنتظار إنتهاء العهد الرئاسي الحالي، ووُضوح الصورة الإقليميّة على مُستوى مُختلف الملفّات الإقليميّة الساخنة. وفي الوقت المُستقطع بدأت التحالفات المُستقبليّة تُرسَم من جديد. وفي هذا السياق، يُمكن مُلاحظة ما يلي:

أوّلاً: إنّ "التيّار الوطني الحُر" الذي تراجعت كتلته النيابيّة من 29 إلى 24 نائبًا حاليًا، بعد خروج 5 نوّاب منها(1)،في ظلّ إصرار نوّاب حزب "الطاشناق" من ضمنها على التمايز بأنّهم "حُلفاء" وليسوا "مُلحقين"، يُواجه ضُغوطًا سياسيّة مُتزايدة مع الإقتراب أكثر فأكثر من نهاية عهد المؤسّس، رئيس الجُمهوريّة العماد ​ميشال عون​. ولولا خيط التحالف الإستراتيجي الذي لا يزال يربط كلاً من "​حزب الله​" و"التيّار"، لكان هذا الأخير يُعاني من عزلة سياسيّة داخليّة كبيرة، علمًا أنّ الكثير من القوى السياسيّة الأخرى ليسوا في حال أفضل من واقع "التيّار". وحتى لوّ وضعنا مُشكلة تشكيل الحُكومة جانبًا، مع ما تُثيره من إنقسامات وخلافات، إنّ الإستحقاقات الإنتخابيّة المُقبلة، من بلدية مُرورًا بالنيابيّة وُصولاً إلى الرئاسيّة، ستتسبّب بصدامات كبيرة سيخوضها "التيّار" حتمًا في غير إتجاه، الأمر الذي سيزيد من حراجة ودقّة تموضعاته وتحالفاته.

ثانيًا: يُوجد حديث مُتزايد عن عودة "​التحالف الرباعي​" بشكل أو بآخر إلى الساحة اللبنانيّة، ولوّ بشكل غير مُعلن، على أن يزداد هذا المنحى وُضوحًا، عند حُلول موعد الإستحقاقات السياسيّة المُقبلة. وأساس هذا التحالف هو رئيس حركة "أمل"، رئيس مجلس النوّاب ​نبيه برّي​، الذي يُشكّل تقاطعًا ما بين "​الثنائي الشيعي​" و"تيّار ​المردة​" من جهة، مع كلّ من "تيّار المُستقبل" و"الحزب التقدمي الإشتراكي" من جهة أخرى. وعلى الرغم من حرص "حزب الله" على عدم التخلّي عن تحالفه مع "التيّار الوطني الحُرّ"، فإنّ مُجرّد نسجه التفاهمات مع القوى السياسيّة المذكورة أعلاه، بحجّة الحفاظ على الإستقرار الداخلي، تسبّب بعزل "التيّار" سياسيًا وبإضعاف نُفوذه، خاصة في ظلّ صراع هذا الأخير المَفتوح مع القوى المسيحيّة الأخرى. ويُوجد حديث من خلف الستار، أنّ هذا التحالف غير المُعلن، سيطرح في الوقت المُناسب قانونًا جديدًا للإنتخابات النيابيّة من ضُمن القوانين التي كان سبق أن عارضها "التيّار"، وأنّ هذا التحالف سيطرح ويتبنّى في الوقت المناسب أيضًا مُرشّحًا لرئاسة الجُمهوريّة من خارج صُفوف "التيّار"، لبلّ من خُصومه ومنافسيه، على غرار الوزير السابق سليمان فرنجيّة مثلاً.

ثالثًا: إنّ التبنّي المُتزايد من قبل بعض القوى السياسيّة والشخصيّات السياسيّة والإعلاميّة، لترشيح قائد الجيش العماد جوزاف عون إلى سُدّة الرئاسة، يُشكّل بدوره تحالفًا سياسيًا آخر غير مُعلن، لكنّه مُرشّح لأن يتبلور أكثر فأكثر في الأشهر المُقبلة. وعلى الرغم من رفض "القائد" الحديث عن ترشّحه للرئاسة، خاصة وأنّ الوقت لا يزال باكرًا جدًا لهذه المعركة، إلا أنّ المُدافعين عن هذا الخيار يعتبرون أنّ الخلافات الداخليّة، والثقة الداخليّة والخارجيّة بمؤسّسة ​الجيش اللبناني​ وبقيادته، مَعطوفة على عدم رغبة "حزب الله" بتفضيل مُرشّح على آخر، من بين رئيسي تيّاري "المردة" و"التيّار"، قد يقود في نهاية المطاف إلى وُصول قائد الجيش مرّة جديدة إلى ​القصر الجمهوري​.

رابعًا: المُتهكّمون على غرق القيادات المسيحيّة في خلافاتهم الداخليّة، يعتبرون أنّ "التيّار" و"القوّات" اللذين دفعا معًا في السابق الثمن الغالي لصراعهما على تصدّر ​القيادة​ ضُمن بيئتهما الحاضنة، قد يدفعان الثمن معًا مُجدّدًا في المُستقبل، بسبب تشتّت ثقلهما السياسي على المُستوى الداخلي. ويعتقد أصحاب هذه النظريّة أنّ كلاً من "التيّار" و"القوات" سيجدان نفسيهما في نهاية المطاف، وعلى الرغم من الشرخ الهائل الحاصل بينهما حاليًا، في تحالف مصلحة جديد، في مُحاولة لمُواجهة مشاريع فرض قانون إنتخابي جديد لا يُلبّي مصالحهما الطائفيّة والحزبيّة، ولمواجهة فرض مُرشّحين لرئاسة الجُمهوريّة من خارج خياراتهما! ودائمًا وفق أصحاب هذه النظريّة، فإنّ التحالف السياسي المصلحي الجديد المُرتقب في المُستقبل بين "التيّار" و"القوّات" سيصل متأخّرًا، إلى درجة أنّه سيكون عاجزًا عن التأثير في مُجريات الوقائع التي ستفرض نفسها بحكم التطوّرات الداخليّة والإقليميّة.

في الخُلاصة، لا شيء يبقى ثابتًا على المُستوى السياسي، والتحالفات هي رهن المصالح والتطوّرات، وليست مُرتبطة حصرًا بالمواقف والثوابت والتموضعات. وإعتبارًا من الأشهر القليلة المُقبلة، ستبدأ صُورة التحالفات الجديدة على الساحة الداخليّة بالإرتسام تدريجًا، وعندها سيُصدَم البعض، وسيندم البعض الآخر، وسيبتسم آخرون تهكّمًا!.