على غرار كل المفاوضات السرّية بين بلدين متخاصمين، انطلقت اللقاءات بين ​السعودية​ و​ايران​ وسط تكتم ايراني ورفض "مصادر سعودية" للخبر، ولكن الواقع لا يمكن ان يبقى خفياً، فسرعان ما تم تأكيده، خصوصاً وان اللقاء حصل في ​العراق​، وهو ما يفسّر الاستقبال التاريخي الذي خصّصته السعودية لرئيس الوزراء العراقي ​مصطفى الكاظمي​ الذي زارها قبيل البدء بهذه المفاوضات السرّية. ولا يحتاج الامر الى اثنين لملاحظة حجم التغيير الكبير في نظرة كل من السعودية وايران للوضع في المنطقة ولمجمل الامور، بعد مغادرة الرئيس الاميركي السابق ​دونالد ترامب​ ​البيت الابيض​ ودخول الرئيس الحالي ​جو بايدن​ اليه.بداية، لم تعد ​الرياض​ تنظر الى ​طهران​ كشرّ مطلق، حتى انّها اطلقت مبادرة لانهاء الحرب في ​اليمن​، وبدأت تخفف من لهجتها ضد ايران شيئاً فشيئاً. في المقابل، زاد الايرانيون من تصريحاتهم الداعية الى الحوار وتلاقي دول ​الخليج​ معها لتعزيز امن المنطقة والدول المعنية، كما انها فتحت الباب امام "تسهيل امور" السعوديين مع ​الحوثيين​ والمعارضين فياليمن، على الرغم من استمرار ​الصواريخ​ والطائرات المسيّرة التي كانت تصل الى السعودية ومطاراتها ومنشآتها، الى ان وصل الامر الى حدود التفاوض المباشر بين الطرفين، ليبدأ الكلام عن تراجع الاعتداءات والتقدم في الحوار.

وفق منظار ترامب، كان الوضع في المنطقة متأججاً، ولم تنفع العقوبات التي تم فرضها على ايران وحلفائها في ​العالم​، ليس من بابالعجز عن ذلك، انما منباب عدم التنسيق مع الدول الكبرى المعنية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر القارّة الاوروبيّة التي "تعاطفت" مع ايران بعد ان وجدت قاسماً مشتركاً معها وهو عزلها من قبل ترامب. ويقيناً، لو غيّر الرئيس الاميركي السابق من مقاربته للامور، لكانت ايران اليوم اضعف مما هي عليه، او لكانت رضيت بتخفيف شروطها الى حدود ادنى بكثير كي تتخطى مشكلتها الاقتصاديّة والماليّة. في المقابل، كانت السعوديّة على عهد ترامب، تمنّن النفس بأنها "محميّة" من الاميركيين بأموالها، وهو ما قاله الرئيس الاميركي السابق بشكل واضح وعلني، ايّ انّه طالما تدفع السعوديّة للاميركيين، فلا خوف عليها. سارت الرياض بهذه النظريّة، وقاربت الامور من منظار ترامب، لتجد نفسها قد وصلت الى طريق مسدود بعد وصول رئيس جديد فرض مقاربة مختلفة كلياً، ودعا الجميع الى التطلع الى مستقبل المنطقة من منظاره وليس من منظاره سلفه.

من الطبيعي الا تثمر المفاوضات بين الجانبين السعودي والايراني عن نتائج فوريّة، ولكنها بدأت تزهر في اكثر من مجال، ومن المتوقع ان تكون اولى ثمارها في اليمن، حيث ستتراجع حماسة الحوثيين في شن الهجمات على السعودية، كما ستسرّع الرياض في اتخاذ كل ما من شأنه انهاء الحرب هناك، وارضاء الايرانيين بما يحفظ ماء وجه السعوديين. واللافت انّ هذا المسار يتزامن مع مسار ​مفاوضات فيينا​، ما يعني انّ المسارين متوازيين ولا يختلف جوهر احدهما عن الآخر، فالهدف هو نفسه ولو ان المعطيات متغيّرة بين ​بغداد​ وفيينا.

يريد السعوديون الاطمئنان الى امنهم ونفوذهم في المنطقة، ولايمانع الايرانيون ذلك ما داموا سيكونون على وفاق مع الدول المجاورة، ومع ​الولايات المتحدة​ التي ترتبط بعلاقات صداقة متينة مع دول اساسية في المنطقة. ومن المنتظر ان تنعكس نتائج المفاوضات، كلما تم التقدم بمسارها، على اوضاع العديد من الدول في الخليج و​الشرق الاوسط​، ومنها بطبيعة الحال ​لبنان​ الذي ينتظر الانفراجات الاقليميّة والدوليّة بفارغ الصبر لانها ستحمل اليه بداية نهاية ازمته السياسية والاقتصاديّة والماليّة. انه المنظار الجديد للمنطقة والذي من المتوقع ان يستمر لاربع سنوات، قابلة للتجديد أكان خليفة بايدن من الديمقراطيين او الجمهوريين، ما لم يكن اسمه دونالد ترامب.