قبلَ ​الفصح​ِ بسِتّةِ أيّامٍ يأتي المُخلِّصُ إلى مَعقلِ الشّريعةِ اليَهوديّةِ حيثُ السنهدريم اليهودي، وحيثُ يأتي الشّعبُ اليهوديّ مِن كلِّ الأقطابِ ليُعيِّدَ الفصح.

الفِصحُ بِالنّسبةِ لليَهودِ مِحوَريٌّ، ومِن أهَمِّ مَحاوِرِه عُبورُهم البحرَ الأحمرَ، وتحرُّرُهم مِنَ العُبوديّة.

يَدخُل يسوعُ المدينةَ، وتَعلو الصَّيحات. يستقبِلُونَه كمَلِكٍ مُخلِّص، ويَصيحون "أوصَنا"، وهي كَلمةٌ عِبريَّةٌ تَعني "يا اللهُ خَلِّص".

المدينةُ كلُّها ارتجَّت. مستحيلٌ أن يَدخلَ يسوعُ "مدينةَ الأنا" عِندَنا ولا يقلِبها رأسًا على عقِب، كما قلَبَ موائدَ الصّيارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ في الهيكل. لا يتركُ هيكلَنا مغارةَ لُصوصٍ، بَل يعيدُه هيكلًا للرُّوحِ القُدُس.

يَذكرُ الإنجِيليُّ متّى "الْجَمْعُ الأَكْثَرُ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ"(متى ٨:٢١).

خَلعُ الإنسانِ لثيابِهِ أمامَ الآتي إليهِ هُوَ اعتِرافٌ بِمجدِهِ، وإقرارٌ بأنَّه صاحبُ السُّلطان والمُلك.

ولكنَّ الفرقَ أنَّ الدّاخِلَ هُوَ الرَّبُّ وليسَ مَلِكًا أرضيًّا. هو يُعطي ولا يَأخُذُ. هو يُضَحّي بِنَفسِهِ مِن أجلِ الغَيرِ ولا يُضحِّي بِغَيرِه مِن أجلِ نفسِه.

ولكن، أيَّ طريقِ مَجدٍ يُريدُ ربُّنا أن نَفرُشَ له؟ أيَّ مَجدٍ يَطلُبُ مِنّا، وأيَّ اعتِراف؟

تُرى لِماذا أتى في ذَلكَ اليَومِ؟ ولِماذا يَأتي كُلَّ يومٍ وكُلَّ لَحظةٍ، ولا يَغيبُ عنَّا ثَانِية؟

لقد أتى لِيَلتَقِيَ بِنا، ويُجَدِّدَ اللقاءَ الأوَّلَ الّذي كانَ معَ الإنسانِ الأوَّلِ، حيثُ كان آدمُ عُريانًا مِنَ الخَطيئةِ، ولا يَخجَلُ مِن عُريه.

كَثيرًا ما نَستَعمِلُ فِعلَ العُري في خَانَةِ كَشفِ البَاطِن. فنقُولُ عَرّينَاهُ مِن ثِيابِه، بِمَعنى كَشَفنا حَقيقَتَه، وأَسقَطْنا عَنهُ أقنِعَتَهُ وأظهَرنا نَواياه. وهَذِه المَعاني كلُّها تُشيرُ أن ما في البَاطِنِ هُوَ عكسُ الظَّاهر.

هذا تَحديدًا ما يُريدُهُ الرَّبُّ مِنّا أن نَفرُشَهُ أمامَهُ لِيَدُوسَه. بَاطِنُنا وخَفايانا ونَوايَانا وكُلُّ مَا نُفَكِّرُ به، أن نَخلَعَهُ ونَرمِيَهُ تَحتَ أقدامِ الرَّب، ونَتعرَّى أمامَهُ مِن دُونِ خَجلٍ لِندخُلَ الخِدرَ مَعهُ عُراةً مِن كُلِّ هَوًى شِرّير، ونَتّحدَ مَعهُ هُو، عَريسِ نُفوسِنا، في علاقَةِ حُبٍّ ولا أسمى، فتحصلُ عِندها الوِلادَةُ الجديدةُ، ويكونُ اتّحادُنا بِهِ اتِّحادًا أبديًّا لا يُفَرِّقُهُ الموتُ، تَمامًا كما يَتعرَّى الزَّوجانِ في المُخدَعِ الزّوجيّ ولا يخجَلانِ مِن بعضِهما لأنَّهما في عَلاقَةٍ طاهرة. فَهُما لا يَخافان بعضَهُما لأنَّ المَحبَّةَ تَطرُدُ الخَوفَ خارِجًا، ويَكونُ الدَّاخلُ الوحيدُ الرِّباطَ المُقدَّس.

معروفٌ في عِلمِ الاجتماع أنَّ العُريَ هَشاشةٌ وضُعفٌ vulnérabilité، ولكن بمفهُومِ المَحبَّةِ هو قُوّةٌ ومُؤازَرة، وهذا لا يَكمُلُ إلّا بِالمَسيح.

دَخلَ يسوعُ أورشليمَ لِيُصلَب. صَحيحٌ أنّنا رَأيناهُ عُريانًا عَلى الصَّليبِ، ولكن في الحَقيقةِ بِصَلبِهِ صَلَبَ خَطايَانا وأماتَاها. قَبِلَ طَوعًا أن يَخلَعُوا عَنهُ ثِيابَهُ لِيُلبِسَنا ثِيابَ المَسيح. هَدفُهُ أن نَلبَسَ عِزَّنا من جَديد، فَتُحَقَّقُ آيةُ إشعياءَ النّبيّ فينا: "اِسْتَيْقِظِي، اسْتَيْقِظِي! الْبَسِي عِزَّكِ يَا صِهْيَوْنُ! الْبَسِي ثِيَابَ جَمَالِكِ يَا أُورُشَلِيمُ، الْمَدِينَةُ الْمُقَدَّسَةُ، لأَنَّهُ لاَ يَعُودُ يَدْخُلُكِ فِي مَا بَعْدُ أَغْلَفُ وَلاَ نَجِسٌ"(أشعياء ١:٥٢).

فبِالعَودَةِ إلى ما هَتف بِهِ الشَّعبُ "اوصنّا أو هوشعنا"، ومِنها أتَت كَلِمةُ شَعانين، نَجدُ أنَّها عِبارةٌ بَهيَّةٌ وخَلاصِيَّة، لا بل العِبارة بأل التّعريف. لأن لَيسَ مِن مُخلِّصٍ إلّا واحد، وليسَ مِن سَيِّدٍ إلّا هُوَ الرَّب يسوعُ ​المسيح​. فهذه الكَلِمَةُ تَحوي فِعلَ الحَاضِر أيَضًا بِما مَعناه: خَلِّصِ الآنَ ولَيسَ غدًا.

ومَن يَهوى صَلاةَ المَزاميرِ يَبتَهِجُ قَلبُهُ بِالمزمورِ الفِصحيّ الّذي يَقولُ: "آهِ يَا رَبُّ خَلِّصْ! آهِ يَا رَبُّ أَنْقِذْ!". وهِي آيةٌ تَقعُ بَينَ آيَتَين بَهِيَّتَين: الأُولى "هذَا هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي صَنَعُهُ الرَّبُّ، نَبْتَهِجُ وَنَفْرَحُ فِيه"، والثانية "مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ"(المزمور ١١٨).

فاللهُ صَنعَ لنا خَلاصًا لِنفرَحَ ونتَهَلَّلَ، وأتى إلَينا لِيُحَرِّرَنا ونُنشِدَ كما كانُوا يُنشِدُونَ في الهَيكَلِ في فَترةِ العِيدِ، وهُم يَحمِلون سُعُفَ النّخلِ وأغصانَ الآسِ والصَّفصافِ المَحبُوكَةَ والفَاكِهةَ، مُعتَرِفينَ بِما فَعلَهُ اللهُ مَعَهم، أي حَرَّرَهُم مِن استِعبَادِ فَرعون: "اِفْتَحُوا لِي أَبْوَابَ الْبِرِّ. أَدْخُلْ فِيهَا وَأَحْمَدِ الرَّبّ" (المزمور نفسه).

كُلٌّ مِنَّا يتُوقُ للخَلاصِ، ولكن بَعدَ أن أَتى يَسوعُ لا حَاجَةَ لأن نَبحَثَ عن مُخَلِّصٍ جَديدٍ يُحرِّرُنا. يَكفي أن نُجَسِّدَ إنجيلَهُ ليَحُلَّ السَّلامُ وتَندثرَ العُبُودِيَّة.

لقد استَوقَفَني بَحثٌ لِلفَيلسوفِ الفَرنسيّ المُعاصِر Paul Ricœur عنِ الإنسانِ والإنسانِيَّةِ والحُريَّةِ والتَّحرُّر. وقَد استَعرضَ نِتاجَ فَلاسِفةٍ آخرِين أمثالKant و Sartre وغيرِهم، وطَرحَ أسئِلةً عديدةً حَولَ طَبيعَةِ الإنسانِ ووُجُودِهِ وحُريَّتِهِ والتَّجاوُزِ والسُّموّ La Transcendance.

​​​​​​​

السؤالُ العَميقُ عندَ هذا الفَيلسُوفِ وغَيرِه يَتمحوَرُ حَولَ الأمَلِ المُترافِقِ باضطِرابٍ نَاتِجٍ عن التَّوتُّرِ الّذي لا يُقهَرُ بينَ الوُجودِ أوِ الحَالَةِ الإنسانيّةِ، والكائِنِ المُتعالِي الّذي يَلجَأُ إليه.

لقد حَلَّ يَسوعُ هَذِهِ المُشكِلَةَ بِتَجَسُّدِهِ مُنذُ زَمنٍ بَعيد، وأفاضَ الجَوابَ بِصلبِهِ وفِدائِه، وفَكَّ هَذِهِ المُعضِلَةَ بِقيامَتِهِ وقِيامَتِنا مَعَه. ألغى المَسافاتِ وأتى إلَينا واقتَرَبَ لِدَرجةِ الاتِّحاد.

هُتافُ الجَماهيرِ فيهِ طَلبُ نَجدة. نَستَنجِدُكَ يا رَب.

فإذا كَانَت سُعُفُ النَّخيلِ تَرمُزُ في الحَضارَاتِ القَديمَة، في بِلادِ مَا بينَ النّهرَين والشَّرقِ الأدنى ومِصرَ وعِندَ الإغرِيقِ والرُّومانِ إلى الانتِصارِ والخُلود، وكانَتِ الشُّعوبُ قَدِيمًا تُهَلِّلُ رَافِعةً إيَّاها، فَهَذِهِ المُناشَداتِ تَحقَّقتْ بِمَجِيءِ الرَّبِّ الّذي، إذا سمَحنا له بِالدُّخُولِ إلى هَيكَلِنا البَشريّ، صَرخَتْ نُفوسُنا مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي! وأصبَحْنا بيتَ صَلاةٍ لا لُصوصَ فِيهِ مُهَيَّئينَ للرَّبِّ تَسبيحًا جَدِيدًا مِثلَ الرُّضَّعِ والأطفَال.