منذ بداية حياته العلنية، وقف إبليس في وجه يسوع محاولاً أن يمنعه من تقدمة ذاته على الصّليب. الشيطان يكره الصّليب لأنّه سيُخضعه، وسيقضي على نفوذه ومملكته... كلّ شيء إلاّ الصليب!

بعد اعتماده في ​الأردن​ على يد يوحنا، يقول ​الإنجيل​ بأنّ "الرّوح سار بيسوع إلى البريّة ليُجرّبه إبليس"(متى11: 1). امتلأ يسوع من الرّوح ​القدس​ في المعموديّة وكرّس ذاته لطريق الصّليب، فتدخّل إبليس ليُبعده عن الصّليب... كلّ شيء إلاّ الصليب!.

وفي البريّة، انتظر إبليس اللحظة الحاسمة، لحظة جاع يسوع وعطش، ليُوقع به، ويُحوّل نظره عن الصليب.

قال الشيطان مرّة أولى ليسوع: لماذا تذهب إلى الصّليب؟ فإن كنت تُريد من الناس أن تتبعك، دعني أريك الطريق! أنظر أنت جائعٌ، فلِما لا تستغلّ قدرتك الإلهيّة لمنفعتك الشخصيّة، فتأكل وتشرب وتتنعّم شأنك شأن كلّ الناس. نعم، كُل وأشرب، وتناول أيّ شيء تُريده...مخدرات...كحول...عِش وافعل ما تشاء وخُذ ما تُريد من مَلذّات الأرض...بإمكانك أن تفعل كلّ شيء يحولوا لك...كلّ شيء إلاّ الصّليب!.

الطريق الأولى هي التّساهل: لماذا ​الصلاة​؟ لماذا الإماتة؟ لماذا الصّوم؟ لماذا الطهارة؟ لماذا الصّدق؟... إذهب، وإفعل ما تشاء، فأنت تأتي إلى الوجود مرّة واحدة!.

وقال الشيطان مرّة ثانية ليسوع: لماذا تذهب إلى الصليب؟ فإن كنت تُريد من الناس أن تتبعك، فاعلم أن الصليب لا يجذب الناس، لأن الناس بحاجة إلى خوارق تُدهشها، وأنت لديك القوة الإلهية لتفعل ذلك. استعرض قوّتك هذه أمام الناس. إرمِي بنفسك من الأعلى في مشهدٍ مسرحي، والله يحفظك، والنّاس تندهش وتُبدي إعجابها بك، وتتبعك، ولكن إيّاك أن تذهب إلى الصّليب... كلّ شيء إلاّ الصليب!.

الطريق الثانية هي الشّوفنة والتباهي والبحث عن النجوميّة؛ إفعل أي شيء لكي يُصفّق لك الناس، ولتنال رضاهم!.

وقال الشيطان مرّة ثالثة ليسوع: لماذا تذهب إلى الصليب؟ فإن كنت تُريد من الناس أن تتبعك، أريدك أن تعرف بأنّ كلّ ممالك الأرض هي لي، وأنا أُعطيك أيّاها. خُذها كلّها وتسلّط عليها سياسيّاً واقتصادياً وثقافيّاً واجتماعيّاً، وهي تتبعك وتُمجّدك...أتريد مجداً أكبر من هذا المجد! خُذ مجد ​العالم​ ولكن لا تذهب إلى الصليب... كلّ شيء إلاّ الصّليب!.

الطريق الثالثة هي عدم الإكتراث بالله، فالله لا يُطعم الجائعين ويُطبّب المرضى...إنّها النّظم السّياسية والإقتصادية التي وحدها، تُطمئن القلب وتَعِد بالرفاهيّة.

ولمّا لم ينجح الشّيطان في محاولاته الثلاث، "ترك يسوع إلى حين" (لو4: 13)، إلى وقت لاحق ليُحاول مرّة أُخرى أن يُعطّل الصّليب... كلّ شيء إلاّ الصّليب.

في قيصرية فليبس، يتدخّل الشيطان ليُبعِد يسوع عن الصّليب! فبعدما سمع بطرس يسوع يتحدّث عن آلامه وموته وقيامته (متى16: 20-21)، وهو التلميذ الذي كان قد أعلن للتّو إيمانه به: "أنت هو ​المسيح​ ابن الله الحيّ "(متى 16: 16)،: "أَخَذَ بطرس يسوع عَلى حِدَة، وبَدَأَ يَنْتَهِرُهُ قَائِلاً: "حَاشَا لَكَ، يَا ربّ! لَنْ يَحْدُثَ لَكَ هـذَا"!. نحن نؤمن بألوهيّتك، ولكننا نرفض بأن تُصلَب! فنحن لا نُريد مسيحاً يموت، بل مسيحاً مُحارِباً يُميت أعداءه شرَّ ميتة! ولمّا سمع يسوع كلام بطرس" َأَشَاحَ بِوَجْهِهِ وقاله له: "إِذْهَبْ وَرَائِي، يَا شَيْطَان فَأَنْتَ لِي حَجَرُ عَثْرَة"!. لنتصوّر ذلك، بطرس هُنا هو الشيطان! لِماذا، لأنّه يُحاول، كالشيطان، أن يُعطّل صليب المسيح، وأن يمنع يسوع من القيام برسالته الخلاصيّة. وبطرس يعمل عمل الشيطان، لأنّه في تلك اللحظة لم يكن "يُفَكِّرُ تَفْكِيْرَ اللهِ بَلْ تَفْكِيْرَ البَشَر"(متى16: 23-24)؛ ... كلّ شيء إلاّ الصّليب!.

وفي بستان الزّيتون، وفي ​الساعات​ الأخيرة والأشدّ قساوةً على يسوع، وبينما كان يُواجه الموت وحيداً، وتلاميذه نيام، تدخّل الشيطان ليُثنيه عن عمله الخلاصي، مستعملاً هذه المرّة أسلحته الأقوى والأشنع والأفتك. ومن هَول التّجربة:" صارَ عَرَقُهُ (يسوع) مِثْلَ قَطَرَاتِ دَمٍ تَسِيلُ عَلَى الأَرْض"(لو22: 44). قال الشيطان ليسوع لماذا تذهب إلى الصّليب؟ أنظر من حولِك، ألا ترى كيف أنّ تلاميذك نيام بينما أنت في حاجة ماسّة إليهم! وتلاميذك هؤلاء الذين ستموت من أجلهم، سيخونونك بعد قليل. والنّاس، نعم الناس، الذين تقول بأنك ستفتديهم، سيختاروا برأبّا عليك؛ المجرم على البارّ. فما الذي تفعله بنفسك؟ إذهب واتركهم لحالهم، ولا تمُت من أجل ناكري الجميل... كلّ شيء إلاّ الصليب!.

وانتصر يسوع على المُجرّب بأن سلّم ذاته إلى الله الآب في كامل الطّاعة:" لتكن مشيئتك با أبتاه، لا مشيئتي"(لو22: 24).

في كلِّ مرّة يقبل ​الإنسان​ روح الله وسلامه ومحبّته، يتدخّل إبليس ليُبلبل ويُخرّب. هذه هي قصّة البشرية من البداية إلى النهاية: "زرع الله الزرع الجيّد في العالم، فأتى الشيطان وزرع بين ​القمح​ زؤانا ليمنع القمح من إعطاء أجمل ما فيه(متى13: 24-30). هناك روح الله الذي ينشر ​المحبة​ و​العدل​ و​السلام​ والإستقامة، وهناك في المقابل روح إبليس الذي يُحاول أن يُعطّل صليب المسيح؛ فيُبرِّد المحبّة، ويُزوّر العدل، ويُقوّض السلام، ويُحَيّدَ عن الإستقامة... كلّ شيء، إلاّ الصّليب!.

ولكن لماذا؟ لِماذا هذه العداوة للصّليب؟.

لأن الصّليب هو علامة حُبّ الله للبشرية. "لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ"(يو 3: 16).

الحُب يبلغ ذروته في نكران الذات، وتقدمتها بحريّة من أجل المحبوب. هذا هو الصّليب: مات ابن الله حُبّاً بنا ليستردّنا إلى الله الآب بعدما خطئنا إليه. وبالصليب قال لنا الربّ:" لو كانت خطاياكم كالقِرمز تُبَيَّض ك​الثلج​، ولو كانت حمراء كالأرجوان تَصير كالصّوف" (أش1: 18).

فيا أيّها المصلوب من أجلنا، خلّصنا. آمين.