لم تستطع كلُّ مسارات التطبيع بين دولٍ عربية و​إسرائيل​ أن تغيّر مكانة ​القدس​ عند ​الفلسطينيين​ أولاً، والعرب ثانياً. أتت التحرّكات الشعبية الفلسطينية الحالية ردّاً على الإعتداءات الإسرائيلية تشير إلى وجود أرضية خصبة لإندلاع إنتفاضة فلسطينية جديدة. كانت تعتقد ​تل أبيب​ أن الفلسطينيين سيكونون عاجزين عن مقاومة المخطّطات الإسرائيلية في أحياء القدس، إستناداً لعدة أسباب:

أوّلاً، تخلّي أو إنشغال العرب عن الفلسطينيين حالياً.

ثانياً، دخول إسرائيل في مسار التطبيع مع دول عربية، فإفترضت تل أبيب أنّه الوقت المناسب لإقتلاع أحياء فلسطينية في القدس.

ثالثاً، تفكّك سياسي ومجتمعي إسرائيلي يجعل أصحاب القرار في تل أبيب يذهبون لمواجهات مع الفلسطينيين لإعادة رص الصفوف الإسرائيلية وفرض حكومات إئتلافية عجز الإسرائيليون عن تأليفها.

رابعاً، تحتاج تل أبيب إلى إفتعال أزمات ومواجهات في محاولة لخلطِ أوراق إقليمية خلال التقارب الأميركي-ال​إيران​ي الذي يُمهّد لإتفاقٍ بين ​طهران​ و​واشنطن​.

إزاء ذلك، يُصبح فتحُ الجبهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين مطلباً سياسياً في تل أبيب. ومن هنا فإنّ القرار العسكري الإسرائيلي تصعيدي مفتوح، يقابله قرار شامل بالرد من قبل الفلسطينيين شعباً وقوى الذين باشروا بالمواجهة في اكثر من إتجاه. وعليه، تصحّح القدس بوصلة العرب: لن يكتفوا بالتجاهل، بل إنّ طبيعة المعركة وإمكانية اندلاع إنتفاضة سيجذبان الشعوب في الإقليم للتعاطف مع الفلسطينيين ضد العدوانية الإسرائيلية.

الحدث الإستراتيجي المُهم أيضاً هو في دمشق التي يحنّ إليها العرب. لن تكتفي عواصم عربية بالإنفتاح على ​الشام​ بعد غياب أو إنقطاع، بل تريد علاقات مميزة مع ​الرئيس السوري​ ​بشار الأسد​ لأسباب عدّة:

أولاً، أثبت أنه نجح في الصمود طيلة عقد من الزمن، ولم يرضخ أو يخشى الحروب التي شنّت عليه.

ثانياً، تقف ​سوريا​ في مقدّمة الجبهة العربية ضد المشاريع التمدّدية التركية، مما يفرض من ​الدول العربية​ الوقوف خلف دمشق.

ثالثاً، إستطاع حلفاء الأسد أن يحقّقوا إنتصارات بالجملة في الإقليم، بدءاً من حماية سوريا، مروراً بفرض الروس نفوذهم، وصولاً إلى التوجه الغربي للتصالح مع إيران عبر إتفاقيات مرتقبة.

رابعاً، يتحضّر السوريون لإنتخابات رئاسية ستجّدد الرئاسة للأسد، مما يؤكد أن دمشق باقية عند ثوابتها التي رفعتها منذ ​الثورة​ التصحيحية التي قادها الرئيس الراحل ​حافظ الأسد​.

خامساً، هناك حاجة عربية، لبنانية وأردنية وعراقية تحديداً لسوريا من أجل التعاون معها سياسياً واقتصادياً.

كل ذلك يعني أن دمشق تصحّح ايضاً بوصلة العرب التي خرجت عن مسارها منذ عام 2011.

ما بين الحدث الفلسطيني والتحوّل بشأن سوريا، يُصبح العرب أمام إستحقاقين استراتيجيين: كيف سيكون وجه الإقليم؟ هل يؤسس الاستحقاقان لمرحلة جديدة في ظل الخروج الأميركي المتدرج من الإقليم؟.

تحتاج تلك الاسئلة الى وقت إضافي لتحديد الأجوبة. فلننتظر قليلا.