لم يصمد طويلاً قرار الرئيس الاميركي جو بايدن بوضع الملف الفلسطيني - الاسرائيلي على الرف، ذلك أنّه لم يكن مستعصياً تدبير فتيل تفجير البارود الذي يختزن بداخله صراعاً دينياً سريع الاشتعال.

تقاطعت الحسابات الدينية مع المستجدات السياسية والتطورات الاقليمية لتؤمّن الدافع المطلوب لانفجار برميل البارود. هكذا وجد بايدن نفسه مرغماً على الاستدارة باتجاه ملف الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، بعدما كان منهمكاً في متابعة تأمين جوانب المفاوضات المعقّدة الدائرة مع ايران. لكن ارسال وزير الخارجية انطوني بلينكن الى المنطقة، لا يعني بالضرورة إعادة فتح قاعات التفاوض حول الحل النهائي، ذلك أنّ ثمة قناعة اميركية بأنّ تعقيدات هذا الصراع عصية في المرحلة الحالية على إعادة اطلاق مفاوضات ترتكز على حل الدولتين. لكن في الوقت نفسه، فإنّ ادارة الظهر كلياً للمنطقة لم تعد في صالح المصالح الاميركية.

بلينكن الذي حرص على لقاء رئيس السلطة الفلسطينية، كرسالة واضحة بضرورة اعادة تنشيط موقعها، سيعمل خلال لقاءاته بالمسؤولين الاسرائيليين على تلمّس الاتجاهات الرسمية الاسرائيلية الجديدة.

فالصراع الداخلي يشتد، خصوصاً في اطار تقاذف المسؤولية عن الفشل، بين رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو وكبار القادة العسكريين. وفيما تبدو اسرائيل متجهة الى انتخاباتها الخامسة في غضون سنتين، يرتفع منسوب القلق عند نتنياهو إثر الانتقادات العنيفة ضدّه بسبب فشل اسرائيل في تحقيق اهدافها.

في الواقع، قد يكون نتنياهو تسرّع في الاعتقاد بأنّه حقق انتصاره مع بداية انفجار الصراع، وهو ما ادّى الى قطع الطريق على أخصامه في انتاج حكومة تضمّ الكتلة العربية. لكن النتائج العسكرية المخيّبة من المفترض ان ترتد سلباً عليه في الانتخابات المقبلة. لكن الاهم يبقى بخارطة النفوذ الجديدة التي بدأت بالظهور مع توقف اطلاق النار. فانتصار «حماس» بدعم واضح من ايران و»حزب الله»، جعل الساحة الفلسطينية مهدّدة بالسقوط بالكامل في قبضة نفوذ ايران.

وفي المقابل، بدت السلطة الفلسطينية في موقع دفاعي ومتراجع. ومن هنا الورقة القوية التي كسبتها مصر، وسمحت لها باستعادة موقعها المؤثر في النظرة الاميركية للمنطقة. فالوساطة الناجحة لمصر، والتي انتجت وقف اطلاق النار، ألزمت الرئيس الاميركي بالاتصال بنظيره المصري للمرة الاولى منذ وصوله الى البيت الابيض. ذلك انّ بايدن لم يكن يخفي انتقاداته القوية للسلطات المصرية، ما جعله يحجم عن الاتصال بالسيسي طوال الأشهر الأربعة الماضية. ولولا الدور المصري الاساسي في معركة غزة الاخيرة، والتنسيق الممتاز بين القاهرة وحركة «حماس» لبقيت الامور مشتعلة، وأضحى الاستقرار الاقليمي على المحك.

لذلك أدرج بلينكن القاهرة كمحطة اساسية في جولته الاولى الى المنطقة. وستتولّى مصر رعاية تثبيت وقف اطلاق النار وضمان عدم توظيف «حماس» المساعدات المالية التي ستصل الى غزة والمخصّصة لإعادة الاعمار في مشاريع عسكرية وحفر الانفاق. مع الاشارة الى توجّه لمنح السلطة الفلسطينية وحدها حق استلام وادارة هذه المساعدات.

في المقابل، ستضمن مصر وقف اسرائيل سياسة الاغتيالات، وهي وجّهت تحذيراً الى الحكومة الاسرائيلية بوجوب عدم المساس بالقيادات السياسية لحركة «حماس» والتي ستتولّى المفاوضات في المرحلة المقبلة.

الواضح انّ مصر مرشحة لدور أوسع على الساحة الفلسطينية بمباركة اميركية وخليجية، لمنع ايران من استثمار نتائج المعركة التي جرت. وبتعبير أوضح، إخراج ايران من غزة والقدس.

وفي السياق نفسه، تدرس المانيا وفرنسا بإسم الاتحاد الاوروبي فتح خطوط التواصل مع «حماس»، ولكن بعد تحقيق المصالحة الفلسطينية. ولكن صحيح انّ التطبيع الذي كان قد حصل بين اسرائيل ودول خليجية وعربية صمد رغم دقّة الموقف، خصوصاً في القدس، إلّا أنّه من الواقعي الاعتبار بأنّ دفء هذا التطبيع سيبرد قليلاً خلال الفترة المقبلة. أضف الى ذلك، انّ التطبيع مع السعودية، والذي كان وُضع على نار حامية، لن يرى النور قريباً، والأرجح انّه سيأخذ وقتاً طويلاً.

وهذه احدى النقاط التي ستؤخذ على نتنياهو خلال التحضير للانتخابات المقبلة. ويقترح المبعوث الاميركي السابق الى المنطقة السفير دينيس روس، بأن تُقدم السعودية كخطوة اولى على فتح مكتب تجاري لها في تل ابيب، على ان تشترط توقف اسرائيل عن بناء مستوطنات شرق الحاجز الامني، اي في 92% من الضفة الغربية.

واعتبر روس، انّ هذا هو الحل الأمثل لاستخدام عملية التطبيع وتوظيفها في كسر الجمود الذي سيحصل بين الاسرائيليين والفلسطينيين.

في الواقع، فإنّ حضور مصر الى جانب الاتحاد الاوروبي عند شاطئ غزة، له علاقة ايضاً وخصوصاً بالنفوذ البحري وخطوط نقل الغاز.

ذلك أنّ احدى هزائم اسرائيل الكبرى في المعركة الاخيرة، عجزها عن حماية منصات استخراج الغاز من البحر، رغم الزيادة التي اقرّتها لبرنامج تسليحها البحري، وهنا بيت القصيد.

فروسيا باشرت العمل على توسيع قاعدتها العسكرية البحرية في طرطوس، بعد انتهاء توسيعها لقاعدة حميميم الجوية. هذه التوسعة ستسمح باستقبال الطائرات الأكبر والأكثر حمولة، وربما القاذفات المحمّلة.

أما توسيع القاعدة البحرية بإنشاء حوض لإصلاح السفن والغواصات، فهو يعني انّه سيكون لروسيا منصّة انطلاق سريعة لهذا الجزء في البحر المتوسط.

وبالتوازي، لا بدّ من التمعن في الحركة المصرية في لبنان وفي سوريا ايضاً، والتي من الممكن وضعها في اطار البديل عن الفراغ الخليجي في هذه المنطقة. ذلك أنّ القاهرة التي تبقي قنواتها ناشطة مع دمشق، فهي في المقابل عاودت تزخيم حضورها على الساحة اللبنانية، ولو من زاوية الأزمة الحكومية ودعم الرئيس ​سعد الحريري​. ومعه يصبح النشاط المصري على الساحة الفسطينية كما على الساحتين اللبنانية والسورية، مكملّاً لمشاريع الغاز البحري، وفي الوقت نفسه مواجهاً للسعي التركي للتمدّد جنوباً، وايضاً ساعياً لملء الفراغ الخليجي في سوريا ولبنان، لقطع الطريق على استفادة ايران من هذا الواقع.

وفي موازاة ذلك، يُفهم ايضاً السعي الاوروبي من خلال الثنائي الفرنسي والالماني للاهتمام بغزة، بعدما كان هذا الثنائي عمل على تركيز جهوده في لبنان، انطلاقاً من الدمار الذي لحق بمرفأ بيروت، ومن ثم بإنجاز الولادة الحكومية والدفع باتجاه حكومة لا تحمل الواناً سياسية فاقعة، او بمعنى آخر، حكومة لا علاقة لها بتوازنات المجلس النيابي. هي صورة كاملة متكاملة على مستوى المنطقة، وجاءت معارك غزة لتجعلها اكثر وضوحاً.

غالب الظن، انّ هذه المشاريع ستكتسب زخمها بعد اعادة إحياء الاتفاق النووي مع ايران، والمتوقع خلال المرحلة القريبة المقبلة، اي بعد انتهاء المفاوضات الاميركية - الايرانية. والأرجح انّ ثمة تفاهماً حول خارطة نفوذ جديدة في المنطقة، يمنح ايران حصّة، ولكن يوزع حصصاً على قوى اخرى بدءاً من روسيا واوروبا وبالتأكيد الولايات المتحدة الاميركية. وهو ما يعني انّ هذه الورشة المقدّر لها ان تنطلق اواخر الصيف هي التي سترسم اللوحة اللبنانية في اولى استحقاقاتها، اي الانتخابات النيابية المقبلة. لذلك، من السذاجة بمكان اندفاع بعض القوى منذ الآن في معارك التجييش الطائفي والمذهبي الخطرة، في وقت تبدو الورقة المالية والاقتصادية هي العامل الاهم في المرحلة المقبلة. وقد تكون حسابات البعض غير دقيقة، في وقت يزداد فيه الدعم الدولي للجيش اللبناني، وهو المؤشر للدور الذي سيلعبه مستقبلاً كإطار جامع للبنانيين، وكقوة دافعة لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، لكن التهور سمة السياسيين اللبنانيين دائماً مع الأسف.