الحوارُ Le dialogue، كلمة يونانيّة وقد ظهرَت قديمًا في الأدب اليونانيّ، وارتبطَت بما يُسمَّى فنَّ التَّبادُلِ الكَلاميّ L'art de la dialectique، ومعالجةَ أجوبةٍ وأسئلةٍ بِهَدفِ المَعرفة.

تَضَعُ الكنيسةُ أمامَنا هذا الأحدَ، لِقاءً وحِوارًا جَرَيا بينَ الرَّب يسوعَ المسيحِ، والمَرأةِ السّامِريَّةِ التي أتَت بِئرَ يعقوبَ ظُهرًا لِتَملأَ جرَّتَها.

ماذا جَرى بينَ يسوعَ الآتي مِنَ اليَهودِيَّةِ وبينَ المرأةِ الخَارِجَةِ منَ السَّامرةِ، واليَهودُ يَزدَرُونَ السامِريّينَ وينبُذُونَهم؟

كان لقاءً فريدًا وحوارًا نموذجيًّا مليئًا بالمحبَّة، ويُترجِمُ محبّةَ اللهِ للإنسان، ويُشكِّلُ مِثالًا لنا، نحنُ البشرَ، لِنحذُوَ حَذوَه. كيف لا وكانت نتيجتُه خُروجَ إنسانةٍ مِن وِحدَةٍ وتقَوقُعٍ وحُزنٍ، لتُصبحَ مُبَشِّرةً عَظيمةً بِالخلاصِ والانفِتاحِ والفَرَح(يوحنا ٤).

كم هي عظيمةٌ الكلمةُ إن أحسَنَ ​الإنسان​ُ استِعمالَها بِنِيَّةٍ صافِيةٍ لا زَغَلَ فيها، فها هي هُنا نَقلَت إنسانَةً مِن حالَةِ العُبوديَّةِ في الخَطيئَةِ، إلى حُريّةِ أبناءِ اللهِ لِمُجرَّدِ أنَّها خرجت مِن قَلبٍ مُحِبٍّ، فدخَلَت صَدرًا وأحْيَتهُ، متخطّيَةً كُلَّ الحواجِزِ التي رسَمها الإنسانُ، جُغرافيَّةً كانت أم دِينيَّةً أم إتنِيَّة.

فالهدفُ الأوَّلُ والأخيرُ لِلرَّبِ هو نَحن، أي كلُّ واحدٍ مِنّا، مِن دونِ أيّ استِثناء، أيَنما كُنّا، وأينَما حَلَلنا ومِن أيّ مِنطَقَةٍ أتَينا. وهذا ما نَحنُ مَدعُوونَ إليهِ، ومسؤولونَ عنهُ، وما أوصَانا اللهُ بِه، أن ننقُلَ الإنجيلَ إلى كلِّ أرجاءِ المَسكُونَةِ عَيشًا وفِعلًا وتَطبِيقًا وتَعلِيمًا.

كُلُّ لِقاءٍ بالرَّبّ، وكُلُّ حِوارٍ مَعه، يُخرِجُنا مِنَ الحالَةِ الفَانِيةِ، ويُدخِلُنا الحالةَ الأبَدِيَّة، وبِالتَّالي يُعيدُنا إلى الحالَةِ الفِردَوسيَّةِ، التي كان الإنسانُ عليها قبل أن يَسقُطَ في خَطَاياه. هي حالةٌ قِيامِيَّةٌ تَجعلُنا نَتَذَوَّقُ الملكوتَ مَنذُ الآن. وهذا ما نَعيشُهُ في لِيتورجيَّتِنا، عندما نُسَبِّحُ ونُنشِدُ للرَّب، ونُصلّي بِقلبٍ مُتخشِّعٍ ومُتواضِع. ننفَتِحُ على اللهِ، ويَدخُلُ الكلامُ الإلهيُّ نُفوسَنا وقُلوبَنا، فيُنعِشُها ويرفَعُها مِنَ الأرضِ إلى السَّماء.

فاللقاءُ بالرَّب يَجعلُنا نَكُونُ نحنُ Nous-mêmes، غيرَ مُشتَّتٍ واحدُنا مِنَ الدَّاخل، بل مُتصالِحينَ معَ أنفُسِنا، وغيرَ تائهينَ، سَلاميّينَ ومُنزَّهِينَ ومُترفِّعين، واللهُ بِكُليّتِهِ يَكونُ معنا Lui-même، ويَسكنُ فينا. هُو لِقاءُ الخالِقِ بِالمَخلوقِ، فيُصبِحُ المكانُ والزَّمانُ اللذان نعيشُهما، فِردوسًا مليئًا بِالسَّلامِ، حتّى وإن كُنّا في وَسطِ أتون النَّار.

ونُصبِحُ بِالتَّالي حَياةً نابِضَة، لا نحيا نَحنُ فَحَسب، بل نُعطي حياةً للآخَرينَ، ولِكُلِّ مَن نلتقي به، قريبًا كان أم غريبًا، عرفنَاهُ قبلاً أم لم نَعرِفْه، إذ يسوعُ الذي نَحياهُ يَمُدُّ كُلَّ الجُسورِ، ليُعيدَ بِناءَ هَياكِلِ اللهِ مِن جَديد التي هِيَ البَشر.

هذا ما حصلَ معَ هَذِهِ المَرأةِ الّتي أتَت وَسطَ النَّهارِ، تحتَ أشِعَّةِ الشَّمسِ الحارِقَةِ، هارِبَةً مِنَ النَّاسِ وتَعييرِهم لَها.

أتَت بِمُفردِها، ولكن بعد لِقائها بِمُعطي الحَياة، تَركَت جَرَّتَها القَديمةَ تحتَ أقدامِهِ، وأسرَعَت تَدعُو أهلَ مدينَتِها إلى بِئرِ الخَلاصِ الإلهيّ، ويَنبوعِ الحَياة، فاستَحَقّت أن تُسمّى "مُنيرة". وهذا تمامًا ما قالَهُ لها الرَّب: "الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ".

نَعم، فالحِوارُ مَعَ الرَّبِّ، واللّقاءُ بِه هو Extase et Transcensus بمعنى "عِشقٌ وعُبور".

وهذا ما عَبَّرَ عنهُ الأُستاذُ الرُّوسيُّ الأصل Constantin Andronikof (١٩١٦-١٩٩٧م)، والذي أتى فَرنسا صَغيرًا على أثَرِ الحَربِ في بِلادِه، وربَّتهُ والِدَتُه على الإيمانِ والتّقوى، بعد أن قُتِلَ والِدُه على يَدِ الثوّارِ، إذ كانَ ضابِطًا في الجيش. وبالرّغمِ مِن أنَّ Constantin أصبحَ دِبلومَاسيًّا في ​فرنسا​، ومُتَرجِمًا للّغةِ الرُّوسيّة، إلّا أنّ ثمارَ زرعِ الإيمانِ أثمَرَتْ فيه، فأصبَحَ عميدَ معهدِ القِدّيسِ سِرجيوس، المعهدِ الرَّوسيّ اللاهوتيّ في فرنسا، وتركَ كِتابَاتٍ لاهُوتيَّةً رائِعَةً، مِن أشهَرِها كتابُ مَعنى الأعياد، وكِتابُ معنى الليتورجية - العلاقةِ بينَ اللهِ والإنسان.

ويُسمّي Constantin الحِوارَ مَعَ الرَّبِّ "الحوار الطّبيعي Le dialogue naturel"، لا غير الطّبيعيّ Surnaturel، وذلك على غِرارِ الجَدَّينِ الأوَّلَين آدمَ وحَوّاء.

وحياةُ القِدّيسِينَ الأرضِيَّةُ مَليئَةٌ بِحِوارَاتٍ مُماثِلةٍ، ولِقاءاتٍ لَيسَ مَعَ اللهِ فَحسب، بَل أيضًا مَعَ قِدّيسينَ انتَقَلُوا قَبلَهُم مِن هَذِهِ الدُّنيا. وكانوا يَعتَبِرُونَ هذه اللقاءاتِ والحِوارَاتِ طَبيعيَّةً جدًّا، ولا شَيءَ مُستَغرَبًا فِيها.

الربُّ أتى البِئرَ لأنّه يعرِفُ أنَّ السَّامِريَّةَ، كما نحن، عَطشى للسَّلامِ الدّاخليّ، والطُّمأنِينةِ والاستِقرارِ والرَّاحةِ والفَرحِ والمَحبَّة. وهذا كُلُّه استمرَّ الإنسانُ يَبحَثُ عنه مُنذُ فجرِ التَّاريخ، لأنَّ غيابَ ذلك فراغٌ بالنّسبة له.

وقد يكون Blaise Pascal مِن أفضلَ مَن عبَّرَ عن هذا التَّوقِ في Pensées: "لماذا هذا العطشُ وهذا العَجزُ لولا أنَّ الإنسانِ اختَبَرَ ذاتَ مرَّةٍ سعادةً حَقيقيّةً، لم يبقَ منها سوى بصمةٍ صغيرة، وآثارَ فارِغة؟ ويُحاولُ عبثًا أن يَملأَ هذا الفراغَ بِكُلِّ الأشياءِ المُحيطَةِ به دون جدوى، ولا أحد يُمكِنُهُ مساعَدَتَه، لأنَّ هذه الهُوَّةَ اللامتناهيةَ، لا يُمكِنُ مَلؤها إلا بما هو لا مُتناهٍ وثَابِت؛ بِعِبَارةٍ أُخرى يملأُها اللهُ نفسُه".

والجوابُ على طَرحِ "باسكال" وغيرِه: مَن يستطيعُ أن يَملأَ هذا الفَراغَ إلّا الّذي صارَ إنسانًا مِن أجلِنا؟ ألا وهو الرَّبُّ يسوعُ المَسيح وحدَه.

دَعوتُنا اليَومَ ليسَ أن نُغَيِّرَ مَكانَ إقامَتِنا، بل طَريقةَ حَياتِنا ووجُودِنا وجِهادِنا ومَسيرتِنا، وأن يكونَ اهتِمامُنا الأوَّلُ اللقاءَ بالرَّبِّ، والحِوارَ الدَّائمَ مَعه، فنُتَرجِمُ هذا الحِوارَ مِياهًا حَيَّةً ودافِئةً تملأ فراغاتنا ونَرتَوي نحن مِنها ونُروي آخَرِين.