فجّر ​البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي​ منذ يومين قنبلة سياسية من العيار الثقيل حين اعلن من ​قصر بعبدا​ رغبته وتمنّيه في قيام حكومة اقطاب لانتشال لبنان من الوضع الذي هو فيه اليوم، وذلك بعد ان اطلق موقفاً متقدّماَ ايضاً من الصراع القائم بين رئيس ​الجمهورية​ العماد ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف ​سعد الحريري​، حيث انتقد بيان ​تيار المستقبل​ وما تضمّنه من عبارات... وما ان انطلقت الفكرة بشكل علني، حتى بدأ التعليق عليها انما بشكل خجول، غير انّه لا بد من التوقف عند اشارات عديدة يحمله هذا الطرح المستجدّ، ومعرفة مدى القدرة على تنفيذه ام انه ولد ميتاً. من الناحية المبدئيّة، يشكل هذا الطرح مخرجاً منطقياً للامور كونه يضع مسؤولي الصف الاول على طاولة واحدة، ولا حاجة عند اتخاذ القرارات لتضييع الوقت والعودة الى "مراجعهم"، ويتحملون بذلك المسؤولية بشكل مباشر ودون اي مواربة. ولكن هذا الطرح اولاً ينسف الشروط الدولية التي قامت منذ 17 تشرين الاول 2019 وحتى اليوم، وتعززت بالمباردة الفرنسية التي دعت الى توزير اناس اختصاصيين من غير الحزبيين للتعاطي مع الازمات الاقتصادية والمالية والمعيشية بطريقة مهنية واحترافية بعيداً عن السياسة والمصالح الحزبية (وهو امر لا يمكن ان يتحقق سوى في الاحلام). وبمجرد تشكيل حكومة سياسية مؤلفة من اقطاب، يكون قد تم الاعتراف الدولي وبشكل رسمي بأنه لا مجال في لبنان لقيام اي حكومة غير سياسية.

هذا الامر ليس بالمشكلة الكبيرة بالنسبة الى الخارج، لان الجميع يعلم ذلك ولكنهم يتفادون قوله بشكل صريح. اما في الداخل، فقيام مثل هذا النوع من الحكومة دونه عقبات كبيرة وكثيرة، اولها طريقة اختيار الاقطاب، والمشكلة الاساس في هذا المجال ستكون محصورة لدى الطوائف (ما عدا ​الطائفة الشيعية​ التي بات اقطابها معروفون ويختصرون بإثنين لا ثالث لهما). اما لدى الطوائف الاخرى، فهل سيرضى السنّة بحصر تمثيلهم بالحريري فقط؟ وهل سيرضى ​الدروز​ بحصر تمثيلهم برئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط فقط في ظّل نمو الاحزاب الدرزيّة الاخرى؟ وهل سيكتفي المسيحيّون بتمثيلهم عبر رئيس الجمهورية و​التيار الوطني الحر​ والقوّات اللبنانية؟ وماذا عما يسمى بالاقلّيات الذين يعتبرون انفسهم من الاقطاب المهمة في البلد والحاضرة على الساحة؟ هذا من حيث الشكل.

اما في العمق، فإذا كانت الامور محتدمة الى حدّ عدم استطاعة المصلحين ومن يملك الارادة ​الطيبة​، جمع عون بالحريري، او مصالحة الاخير مع النائب ​جبران باسيل​، فكيف سيلتقي الجميع على طاولة واحدة؟ واي قرار سيتم اتخاذه اذا اراده القطب نفسه بشكل مباشر؟ عندها يجب حكماً انتظار اتخاذ كل القرارات بالتوافق، لان اي اعتراض من اي قطب سيؤدي الى مشكلة في البلد تبدأ في الشارع ولا يمكن معرفة اين ستنتهي. لذلك، من غير المجدي حالياً قيام مثل هذه الحكومة، لان مقووات فشلها اكبر بكثير من مقومات نجاحها، ولن يرضى احد في "تجيير" الانجازات الى غيره، لنكون بذلك امام معضلة جديدة تضاف الى المعضلات السابقة المتراكمة، والاهم انه ليس هناك من وجود لقوة تفرض على الجميع السير بالمواضيع وفق ما يجب على غرار ما كان يحصل في السابق عند بروز اي خلاف او ​اشكال​ بين الاقطاب، فكانت القرارات تُفرض بالقوة وتنفذ بكل "طيبة خاطر".

في العام 1958 تدخل ​الجيش الاميركي​ لاعادة الامور الى نصابها في لبنان، وانسحب بعدما امّن المسار اللازم لانتخاب قائد الجيش ​فؤاد شهاب​ رئيساً للجمهورية، وهو الذي وضع عندها اسس قيام الدولة وتنفيذ ​الدستور​ بحذافيره. اما اليوم، فلا قوّة عسكرية اجنبيّة تفرض اعادة الامور الى مسارها الطبيعي للخروج من هذه المأساة والعمل على ترتيب الوضع السياسي العام، فالارضيّة غير جاهزة لقيام حكومة اقطاب، ما يعني ان الفكرة جيّدة ولكنها ميتة بالفعل.