حين قام رئيس الحكومة المكلف النائب ​سعد الحريري​ بجولاته المكوكية الخارجية، بنى عليها كل دعايته الاعلاميّة بأنّها كانت لعرض قضيّته امام الجميع، وبالاخص امام ​البابا فرنسيس​ في ​الفاتيكان​. وعندما خرج تحديداً من هذا اللقاء، هاجم الحريري رئيس الجمهورية العماد ​ميشال عون​ في ما اعتبره الكثيرون انه بدفع من الفاتيكان "المستاء من أداء عون والنائب ​جبران باسيل​". ولكن اليوم، يتضح ان الصورة كانت مغايرة وغير دقيقة بالكامل، وقد اوردت "النشرة" هذه الاجواء في خبر خاص لها من مصادر دينيّة مسيحية، الا ان التشكيك كان سيّد الموقف، وانتصرت الماكينة الاعلاميّة للحريري في حينه.

ولكن، منذ ايام قليلة فقط، بدأ ​البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي​ في توجيه انتقادات مبطّنة للحريري بسبب ادائه السياسي على الساحة اللبنانية عموماً، وفي موضوع ​تشكيل الحكومة​ خصوصاً، الى ان وصل به الامر أمس الى حدّ التساؤل عما اذا كان التمييع في تشكيل الحكومة هدفه استهداف ​الانتخابات النيابية​ وبعدها الانتخابات الرئاسيّة بهدف تطييرهما. صحيح ان البطريرك الماروني لم يسمّ من يعنيه بالاسم، ولكن المؤشرات كلها تدل على الحريري، رغم ان الكثيرين سيخرجون للتأكيد على انه كان يعني عون وليس رئيس الحكومة المكلّف، متناسين مسار الامور في الفترة الزمنية الاخيرة، وهي الكفيلة بشرح الكلام البطريركي بشفافية. فقد كان البطريرك الراعي في بعبدا منذ ايام قليلة واستهجن بلسانه (وليس عبر اوساط) بيان ​تيار المستقبل​ الصادر في حينه وما تضمنه من كلام عالي السقف يؤذي ولا يؤدّي الى حلول، وبعدها بساعات قليلة اطلّ الامين العام لتيار المستقبل احمد الحريري عبر الاعلام ليؤكّد وجود توتّر يسيطر حالياً على العلاقة بين الحريري والبطريرك، رغم انه تقيّد بكل المعايير الدبلوماسية والرصينة لتجنب إحداث شرخ فيها.

هذا الامر يعيدنا الى ما قاله الحريري في الفاتيكان، فلو كان صحيحاً ان الكرسي الرسولي غاضب من عون وباسيل، لما اخذ البطريرك هذا المسار الجديد في المواقف، ولما اطلق صرخة تحذير من ان التأخير فيتشكيل الحكومة وممارسة التمييع هذه تطيير الانتخابات النيابية ومن ثم الرئاسيّة، فهو كان اكد من بعبدا ان عون يريد تشكيل الحكومة الآن وفوراً بالرغم من كلّ شيء، ما يعني أنّه اراحه من تهمة العرقلة الحكوميّة، ولم يعد يحتاج الامر الى الكثير من التفكير لمعرفة من الشخص الاخر المعني بالكلام البطريركي الاخير. وهذا إن دلّ على شيء، فعلى أنّ الحريري بات في مأزق بالفعل، ويتمّ سحب الاغطية عنه بشكل مُتَوالٍ، ولم يعد عامل الوقت يساعده في اللعبة التي اختار ان يلعبها مع عون، بعد ان كانت الامور معكوسة تماماً منذ اسابيع قليلة فقط، حتى ان الكلام عن اعتذاره اصبح يتنامى اكثر من اي وقت مضى، بينما يصرّ رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ على ابقاء مبادرته على قيد الحياة للمرة الاولى منذ مدّة طويلة، وهو الذي كان المسارع دوماً الى اطفاء محركاته السياسية عندما تشتدّ الازمة، ليعلن انها لن تعود الى العمل قبل حلّ معضلات اساسية، ولكنه اصبح على رأس المدافعين عن هذه المبادرة بعد ان أتاه التفويض كاملاً من ​حزب الله​، ويدافع عنها بقوّة وهذا ما افهمه للحريري في لقائهما الاخير.

واذا اخذنا زيارة الحريري الى الفاتيكان كمعيار لنتائج زياراته الخارجية، لاصبحت الصورة اكثر سوداوية بالنسبة اليه، وهو ما يزيد الضغط على كتفي رئيس الحكومة المكلّف الذي بدأ يحمل اثقالاً اكثر مما يحتمل، واصبح مُلزماً بايجاد حلّ ينقذ ماء وجهه ويشدّ عصب مناصريه من الطائفة السنيّة ومن التيار الازرق، لان العكس سيؤدّي الى كارثة سيّاسية بالنسبة اليه، قد توصله الى فقدان ما ورثه عن والده... وهو السيناريو الذي يتفادى الوصول اليه مهما كان الثمن.