غريب قدرة الدول الخارجية على التلاعب بالدول الصغيرة وتحديد مصيرها، والاغرب قدرة شعوب هذه الدول (وبالاخص لبنان) على التأقلم مع هذه الاوضاع وتفضيلها على العيش الكريم وعلى حياة اولادها ومستقبلهم. هذا هو حال لبنان الذي يحاول الجميع ايهام اللبنانيين ان مشكلتهم داخلية محض، فيما المنطق والدلائل تشير بوضوح الى ان المشكلة خارجية وان اللاعبين اللبنانيين يتكفلون بتسييرها بسلاسة وبموافقة ضمنية من غالبية الشعب "المنوّم مغناطيسياً" بقدرة الطائفية والمحسوبية والاستزلام.

هل هناك من يشكك بأن المشكلة بدأت من خلال العقوبات التي فرضها الرئيس الاميركي السابق ​دونالد ترامب​ على لبنان لاحراج ​حزب الله​ وتضييق الخناق عليه، قبل ان تتحول الى مشكلة هدر وفساد واصلاح وغيرها وتنفجر عبر اثارة قضية رفع التعرفة على كلفة الواتساب؟ وكي لا نعود كثيرا الى الوراء، هل تساءل احد عن ضابط الايقاع للوضع اللبناني؟ الم يكن آخر شهر ايار الماضي الموعد النهائي للدخول في المجهول وتحديد المصير لجهة بقاء لبنان او زواله؟ اصبحنا على ابواب النصف الثاني من شهر حزيران ولم يتغيّر شيء، لا نزال في الجحيم والوضع نفسه: لا موت ولا حياة. واعطت جرعة التفاؤل التي دخلت في الايام الماضية، مفعولها لناحية تحريك امياه الراكدة سياسياً، الا انها لم تنعكس على الوضع المعيشي والحياتي، وتم معها تحديد مهلة جديدة للزوال والخراب وهي نهاية الاسبوع، ولكنها ترافقت مع الموافقة الاستثنائية على تأمين سلفة لاستقدام الفيول اللازم لكهرباء لبنان لعدم الغرق في العتمة، فيما يعتبره الكثيرون "تمنين" اللبنانيين بدل "التقنين" الكهربائي، لان هذه الاموال هي من ودائعهم اي انهم يدفعون عن الدولة ما يجب عليها ان تؤمنه لهم من ضرائبهم وليس من اموالهم الخاصة.

تسارع الاحداث والتطورات، قابلها كلام عن ان تسريع الوصول الى اتفاق بين ​الولايات المتحدة الاميركية​ والغرب من جهة و​ايران​ من جهة اخرى في المفاوضات القائمة في فيينا، سينعكس حتماً على لبنان وبشكل سريع، ما يعني انه في المبدأ، يجب انتظار ما سيحمله شهر حزيران من معطيات قد تؤدي في نهاية المطاف الى ​تشكيل الحكومة​ العتيدة التي ستكون شاهداً جديداً على ان المشكلة ليست داخلية، ليس فقط لجهة تأليفها، بل لسرعة تجاوب العالم معها، بمعنى انها لن تكون حكومة خارقة او تحمل وزراء لا مثيل لهم في العالم (مع الاحترام للجميع)، ولكنها ستكون القطعة النهائية في لوحة "البازل" السياسية التي يرغب الخارج في وضعها، والا كيف يمكن تفسير تصاعد الكلام عن الحكومة السياسية وما طرحه البطريرك الماروني عن حكومة اقطاب، فهل هذا يعني دليل على ان الوزراء سيكونون من خارج نادي الاحزاب والتيارات؟ ومن غير المنطقي في الاصل توقع قيام حكومة من اختصاصيين ولا علاقة لها بالسياسة، ما دام اساس وجودها محصور بالتوصل الى اتفاق سياسي بين قوى اقليمية ودولية، فكيف سيقتنع احد انه يجب على الحكومة اللبنانية الجديدة ان تكون منزّهة عن السياسة؟ لا حاجة لترداد وتعداد الاسباب الكثيرة التي تؤكد ان تأليف حكومة قائمة على الاختصاصيين فقط هو ذر للرماد في العيون، فالمطلوب اليوم اصبح فقط تشكيل الحكومة اياً كان رئيسها واياً كان اعضاؤها، حتى ان شرط عدم تواجد حزب الله فيها تحوّل الى شرط غير ملزم وقابل للتفاوض، خصوصاً وان تفويض الحزب لرئيس ​مجلس النواب​ ​نبيه بري​ استلام مفاوضات تشكيل الحكومة، دليل على تفاهم مسبق معه على امور جوهريّة لا يمكن القفز فوقها.

ما تعلمناه من هذه الازمة انّ المهل النهائيّة ليست سوى محطّات فقط، وخطوات اولى على طريق الالف ميل لاستعادة لبنان طبيعته، والتي نعني بها الحال التي كان عليها قبل العقوبات، كي لا يذهب احد بأحلامه الى مرحلة غير قابلة للتحقيق.