مع أنّ خيار الانتخابات المبكرة مطروحٌ منذ فترة طويلة، على لسان بعض ممثّلي ​المجتمع المدني​ والقوى السياسية المُعارِضة، إن جاز التعبير، وتعود جذوره إلى مرحلة "الانتفاضة" في تشرين الأول 2019، إلا أنّ أيّ مؤشّرات لا تدلّ على أنّه يُدرَس جدّيًا.

وتُعزِّز هذا الاعتقاد مواقف قادة الأحزاب النافذة والأساسية، وآخرهم الأمين العام لـ"حزب الله" ​السيد حسن نصر الله​ الذي اعتبر، في كلمته الأخيرة، الذهاب إلى انتخابات مبكرة بمثابة "ملهاة وتضييع وقت"، ليس إلا، رافضًا بالمُطلَق مقولة إنّها قد تكون "مفتاح الحلّ".

وإذا كان البعض ربط "تكثيف" الحديث عن انتخابات باكتشاف "​التيار الوطني الحر​" أنّها قد تكون الحلّ الوحيد لـ"سحب التكليف" من يد رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري، فإنّ هناك من يشير إلى أنّ باسيل نفسه استبعد هذا الخيار، باعتبار أنّ الوقت ليس مناسِبًا.

أكثر من ذلك، ثمّة من يرسم علامات استفهام حول موعد الانتخابات الدوريّة المفترضة العام المقبل، وهو ما أشار إليه صراحةً البطريرك الماروني ​بشارة الراعي​ في عظته الأخيرة، ولو أنّ ممثلي القوى الأكثرية، وآخرهم نصر الله، ينفون أيّ بحث بتأجيل الاستحقاق الشعبيّ!.

أجواء انتخابيّة طاغية

رغم كلّ ما سبق، ورغم "التشكيك" بحصول الانتخابات في موعدها، وليس المبكرة فحسب، فضلًا عن التشكيك بجدواها، في ظلّ الفرز السياسيّ، الذي لا يُعتقَد أنّ أيّ "انقلاب" سيحدث على خطّه، لم يعد خافيًا على أحد أنّ لبنان دخل "زمن الانتخابات"، بشكلٍ أو بآخر.

يتمثّل ذلك بالأجواء السياسيّة السائدة في البلاد منذ أكثر من أسبوع، على وقع "الجمود" السياسيّ المتفاقم، إضافةً إلى "التخبّط" على خطّ ​تشكيل الحكومة​، حتى أنّ هناك من يعتقد أنّ "الحسابات الانتخابيّة" باتت تطغى على غيرها، بل إنّ "التنازلات" المطلوبة في العادة لتأليف الحكومة باتت من "سابع المستحيلات"، استنادًا إلى هذا المُعطى المُستجِدّ.

في هذا السياق، يرى البعض أنّ رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري بدأ بخوض "معركته الانتخابيّة"، وتجلّى ذلك بالبيان الناريّ الذي أصدره قبل أسبوع، والذي وصفه كثيرون من الأصدقاء والخصوم بـ"الخطيئة"، لما انطوى عليه من "تصويب مباشر"، وربما "شخصيّ"، على رئيس الجمهورية، إلا أنّه هجومٌ يعتقد "المستقبليّون" أنّ من شأنه رفع أسهم "الشيخ سعد" انتخابيًا، وفي بيئته الحاضنة "الممتعضة" من مناخ "التسويات" مع "العهد".

في المقابل، لا تبدو "الحسابات الانتخابية" بعيدة عن فكر "التيار الوطني الحر"، الذي لا يزال يلوّح بانتخابات مبكرة، على طريقة "آخر ​الدواء​ الكيّ"، وثمّة من يرى الكثير من "العُقَد" الحكوميّة جزءًا من "عدّة الشغل" الانتخابيّة، خصوصًا مع تكثيف قياديّي "التيار" من اعتماد الخطاب الذي يدغدغ مشاعر الجمهور "العونيّ"، عبر إثارة مسألة حقوق المسيحيّين، ورفض التنازل عنها، والتصدّي لما يصفها بـ"المثالثة المقنّعة"، وغير ذلك.

ولا يبدو الشأن الاقتصاديّ، على "مرارته"، مُحيَّدًا عن هذه الأجواء، بل إنّ هناك من يضع المرسوم الذي صدر عن حاكم مصرف لبنان ​رياض سلامة​، والقاضي بتحرير جزء من الودائع، بمثابة "رشوة" للناخبين، ولا سيّما صغار المودعين منهم، علمًا أنّ علامات استفهام تُطرَح حول "توقيت" هذا المرسوم، الذي كان سلامة نفسه يحذّر منه، بل يعتبره خارج نطاق "صلاحيّاته"، وبما يذكّر بشكلٍ أو بآخر بمسألة "سلسلة الرتب والرواتب" قبيل انتخابات 2018.

لا انتخابات ولا من يحزنون

لا نقاش إذًا في أنّ البلاد دخلت أجواء "الانتخابات"، قبل الأوان على الأرجح، وهو ما يتجلّى بوضوح من خلال المنافسة على الاستقطاب السياسيّ، والحماوة في الطرح، والسقف المرتفع في الخطاب "الانتخابيّ"، إن جاز التعبير.

وقد يكون لذلك أسبابه ومقوّماته، إذ لا يزال كثيرون يعتقدون أنّ الأمور "ستفلت" عاجلاً أم آجلاً عن السيطرة، خصوصًا في ضوء الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، وشبح "الانهيار" الذي يكاد يصبح واقعًا، مع بدء العدّ العكسيّ لرفع أو ترشيد الدعم عن استيراد المواد الأساسيّة، ولن يجد المسؤولون حلاً سوى بإجراء الانتخابات، على طريقة "المسكّنات".

وثمّة من يربط الأمر أيضًا بـ"العجز" على خطّ تأليف الحكومة، خصوصًا إذا ما التحقت مبادرة رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ بسابقاتها، وهو ما ترجّحه الكثير من المصادر والأوساط المتابعة، لتأتي الانتخابات في هذه الحال بمثابة "رفع لليد"، خصوصًا أنّ المعنيّين يجزمون بأنّ الأمور لا يمكن أن تبقى على حالها، وقد لا يكون من حلّ سوى باعتذار الحريري، أو بالانتخابات.

لكن، في مقابل كلّ هذه الأسباب التي يمكن أن "تحفّز" نحو إجراء انتخابات، ثمّة أسباب أكثر قوة تدفع إلى الجزم بأنّ خيار الانتخابات ليس واردًا في هذه المرحلة، أولاً لأنّ لا انتخابات مبكرة يمكن أن تحصل من دون تفاهم مسبَق عليها، وهو ما ليس متوافرًا، مع إصرار الثنائيّ الشيعي تحديدًا على التصدّي في العَلن لأيّ نقاش من هذا النوع، وهو ما يريح بقية الأطراف.

أما السبب الثاني الذي يضعه البعض فيتمثّل ب​قانون الانتخابات​ الذي لا يزال يثير الانقسامات، بين فريقٍ يُصِرّ على وجوب تعديله قبل أيّ استحقاق جديد، استنادًا إلى تجربة 2018 وما تبعها، كما يطالب ببعض التعديلات في "الجوهر"، ربطًا بحجم الدوائر الانتخابيّة والصوت التفضيليّ وغيره، وفريق آخر يعتبر أنّ القانون لم يُجرَّب بما فيه الكفاية، ويرفض أيّ تعديل عليه.

إلا أنّ السبب "الجوهري" الحقيقي الذي يجعل أيّ حديث عن انتخابات مجرّد "تضييع للوقت" فيتمثّل بأنّ القوى المتخاصمة متّفقة على أنّ الانتخابات في هذا التوقيت ستكون أكثر من "حسّاسة". فحتّى لو كان الاعتقاد بأنّ الانتخابات لن تغيّر الكثير في المعادلة، إلا أنّه لا يخفى على أحد أنّ المزاج الشعبيّ تجاه الأحزاب، في أسوأ أحواله، وبالتالي فقد تكون الانتخابات "مغامرة" غير محسوبة لكثيرين.

"ملهاة" في الوقت "الضائع"

ثمّة من يقول إنّ الظرف الحاليّ ليس "وقت انتخابات"، فالبلاد بحاجة إلى "حكومة إنقاذ" تباشر بإطلاق ورشة الإصلاحات الموعودة منذ سنوات، لا إلى انتخابات لن تؤدّي سوى لتعديلات "طفيفة" في الخريطة السياسيّة، من دون أن تؤثر على "الجوهر العام".

قد يكون هذا الكلام "دقيقًا"، إلى حدّ بعيد، ولو أنّ طريقة تشكيل الحكومة الحاليّة لا تبدو "مبشّرة" على الإطلاق، بأنّها ستكون قادرة على تنفيذ أيّ "إصلاح"، بما يمهّد لـ"الإنقاذ الحقيقيّ"، طالما أنّ حسابات ​المحاصصة​ وتقاسم المغانم هي التي تتحكّم بها وتؤخّر تأليفها.

إلا أنّ ما قد يكون أكثر دقّة، أنّ الظرف الحاليّ بالفعل ليس "وقت انتخابات"، لكن من زاوية أخرى، تتعلّق تحديدًا بمشاهد "الذلّ" التي يعيشها اللبنانيون، من الطوابير أمام ​محطات المحروقات​، إلى الأدوية المفقودة في الصيدليات، والغلاء الفاحش وغير ذلك.

هل مِن حاكِم "عاقِل"، بالمعنى المجازيّ، يمكن أن يذهب إلى انتخابات في ظلّ هذه الأجواء، ولو كان "يعتقد" أنّ النتيجة مضمونة؟ لا شكّ أنّ الإجابة المحسومة هي بالنفي، ما يضع كلّ حديث الانتخابات بمثابة "ملهاة"، في الوقت "الضائع"...