منذ إنفجار ​الأزمة​ الماليّة في ​لبنان​ قبل أكثر من سنة ونصف ​السنة​، يبحث المُودعون عن بصيص أمل، يُنقذ ما يُمكن إنقاذه من أموالهم المَحجوزة في ​المصارف​. فهل يُشكّل تعميم ​المصرف المركزي​ رقم 158 خشبة الخلاص المَنشودة، أم أنّه سيزيد الأمور سوءًا؟!.

لا شكّ أنّ ​سياسة​ كسب الوقت هي المُعتمدة من قبل المصرف المركزي منذ سنوات طويلة، وهذه ​السياسة​ صارت أكثر وُضوحًا خلال المرحلة الأخيرة. وفي الوقت الذي يُحاول فيه المسؤولون في ​الدولة​ التهرّب قدر المُستطاع من حمل كُرة النار المُتمثّلة ب​رفع الدعم​ عمّا تبقّى من سلع وخدمات مَدعومة، يتردّد أنّ قرار دفع جزء يسير من أموال المُودعين، مَعطوفًا على وعد "ال​بطاقة​ التموينيّة"، يُمثّل مُحاولة لتأمين صُمود أوسع شريحة مُمكنة من المُواطنين لمزيد من الوقت أمام هول الغلاء المُستشري، خاصة وأنّ ​حالات​ ​الفقر​ والعوز ستزداد حدّة، مع رفع الدعم المُرتقب عن المُشتقّات النفطيّة، وعن ​الأدوية​ وخدمات الطبابة، إلخ. وبعيدًا عن خلفيّات قرار المصرف المركزي رقم 158، لا بُدّ من إستعراض أبرز حسناته وسيئاته:

أوّلاً: إنّ وضع خُطّة لتسديد أموال المُودعين ب​الدولار​ الأميركي يُمثّل خُطوة جيّدة بحدّ عينها، على الرغم من مَحدوديّة هذا المبلغ ومن طول فترة التسديد التي لن تقلّ عن خمسة أعوام، وذلك لأنّ المواطن سيعرف عندها ما هي الخيارات المُتاحة أمامه على مدى سنوات عدّة. ومن شأن قَوننة هذه الخُطوات، عبر قانون "​الكابيتال كونترول​" أو سواه، أن يُساهم في مزيد من الطمأنة.

ثانيًا: إنّ تسديد مبلغ 400 دولار أميركي شهريًا، لمن يرغب من أصحاب الودائع بالدولار في المصارف، سيُمكّن الكثير من المواطنين من دفع فواتيرهم ومن تأمين الحدّ الأدنى من معيشتهم، بعد أن صار الكثيرون عاجزين عن تأمين أبسط مُقوّمات ​الحياة​ الكريمة، بسبب الغلاء المُستشري.

ثالثًا: إنّ تسديد مبلغ 400 دولار أميركي شهريًا-وحتى لو قام بعض المُودعين بسحب أموالهم لتخزينها في المنازل وليس لصرفها، سيسمح بضخّ كميّة لا بأس بها من الدولارات في السوق في نهاية المطاف، وهذا من شأنه أن يُعوّض جزءًا ولوّ صغيرًا من النقص الحاد للعملات الأجنبيّة في السوق اللبناني. ونظريًا، يُمكن أن يبلغ المبلغ الذي سيتوفّر في السوق، أقل بقليل من أربعة مليارات دولار أميركي سنويًا(1).

لكن في مُقابل هذه الحسنات، سيتسبّب القرار رقم 158 ببروز سيئات عدّة، أبرزها:

أوّلاً: إنّ أيّ مُودع يرغب بالإستفادة من هذا القرار، عليه تحويل جزء من أمواله إلى حساب جديد، مع منعه من إضافة أو سحب أي مبلغ منه، طيلة فترة إستفادته من القرار 158. وهذا الأمر من شأنه تكبيل المُواطنين أكثر فأكثر، مع منعهم حتى من الإستفادة من السحب وفق التعميم رقم 151 الذي كان قد حدّد سعر صرف الدولار بما يوازي 3900 ليرة لبنانية فقط لا غير. أكثر من ذلك، لا شيء مَضمون بأن تلتزم المصارف بمُندرجات القرار المَذكور على مدى خمس سنوات، والخشية كبيرة من أن تفشل مصارف عدّة في مُتابعة الإلتزام به في أيّ وقت في المُستقبل.

ثانيًا: إنّ إلزام أي مُودع بسحب ما قيمته أربعة ملايين وثمانمئة ألف ليرة لبنانية(2)، في مُقابل كل أربعمئة دولار أميركي يسحبها نقدًا، سيؤدّي عمليًا إلى زيادة هائلة في حجم السيُولة النقديّة المُتوفّرة بالعملة الوطنيّة، وهذا يعني إرتفاعًا تلقائيًا في سعر صرف الدولار. وبالتالي، وبدلاً من حصر السحب بالدولار، لإرغام المُواطنين بشكل غير مُباشر على تصريفها في السوق، ما يُؤدّي إلى خفض سعر الصرف، جرى إلزامهم بسحب 400 دولار أخرى من رصيدهم على أن تُعطى لهم بالعملة الوطنيّة وفق سعر صرف المنصّة، أي على سعر 12000 ليرة للدولار الواحد. وهذا الباب، سيدفع المزيد من الأشخاص إلى سحب دولاراتهم وتخزينها في المنازل، وإلى صرف الليرات حصرًا، ما يعني زيادة ​التضخّم​ وإرتفاع سعر صرف الدولار تلقائيًا!.

ثالثًا: إنّتحديد سعر إضافي لسحب الدولار سيزيد من البلبلة الحاصلة في الأسواق، وسيُساهم في إبعاد أيّ أمل بإستعادة الثقة ب​القطاع المالي​ ككلّ. فكيف يُمكن إبقاء سعر الصرف الرسمي للدولار عند 1507 ليرات لبنانية، وتحديد سعر الصرف من الحسابات "المُدولرة" عند 3900 ليرة، وتحديد سعر الصرف على المنصّة الإلكترونيّة عند 12000 ليرة، في حين أنّ دولار السُوق السوداء غير ثابت ويُواصل تحليقه، وسعر الشيكات المصرفيّة، أو ما يُعرف بإسم "لولار"، ينهار بوتيرة سريعة! وتعدّد سعر الصرف وفق خمسة أرقام مُتباينة، يُسبّب ضياعًا كاملاً في السوق، إضافة إلى كونه يُشكّل "هيركات" مُقنّعًا لجزء كبير جدًا من أموال المُودعين بالعملات الأجنبيّة، وإندثارًا كاملاً للقيمة الشرائيّة للحسابات ب​الليرة​ المُتوفّرة لدى المصارف.

في الخُلاصة، إنّ تسديد الودائع بالدولار جيّد... وتسديدها بالليرة كارثيّ على مُستوى التضخّم وسرعة إنهيار قيمة الليرة! هذا ما حصل عند بدء تطبيق التعميم رقم 151 يوم كان سعر صرف الدولار لا يزال بحدود الستة آلاف ليرة، وهذا ما سيحصل عند بدء تطبيق التعميم رقم 158 الجديد! فلماذا الإصرار على إرتكاب المزيد من الأخطاء الماليّة، بالتوازي مع مزيد من الأخطاء السياسيّة؟! إن ما حصل ويحصل صار أقرب إلى الجريمة منه إلى الخطأ، وذلك بحقاللبنانيّين سياسيًا، وبحقّ المُودعين ماليًا!.

(1) عدد الحسابات المُستهدفة بهذا القرار يبلغ نحو ثمانمئة ألف حساب، وعند ضربها بالمبلغ الذي يحقّ لأصحابها سحبه شهريًا، ثم على مدى عام كامل، نصل إلى 3 مليارات و840 مليون دولار أميركي، في حال إلتزام الجميع بالسحب، وبضخّ هذه الأموال في السُوق.

(2) على أن يُعطى نُصف هذا المبلغ نقدًا، ونصفه الآخر عبر بطاقة مصرفيّة.