دخل ​لبنان​ مرحلة جديدة من تفاقم أزماته، تتميّز بنفاذ الاحتياطي من ​الدولار​ات في ​البنك المركزي​، وبدء التمهيد لوقف الدعم عن السلع والمواد الأساسية، وتفاقم ​الأزمة​ المعيشية والخدماتية، مع ما يرافقها من مشاهد إذلال واستنزاف يومي لوقت وحياة المواطنين، والمتمثلة بالاصطفاف يومياً بسياراتهم في طوابير طويلة على محطات ​البنزين​، أو قضاء ساعات طويلة بالانتقال من صيدلية إلى أخرى بحثاً عن دواء مفقود، وهم بأمسّ الحاجة إليه، في حين بات المواطن لا يجد مواد مدعومة في الأسواق مما يضطره إلى شرائها بأسعار مرتفعة جداً، أو الامتناع عن شرائها لعدم امتلاكه ثمنها، بعد أن انهارت قدرته الشرائية، نتيجة التراجع المستمر في قيمة الليرة، وبالتالي أصبح راتبه الشهر لا يكفي لتأمين البعض من احتياجاته الأساسية والضرورية للعيش.

يحصل ذلك مع أنّ الحلول لبعض هذه الأزمات متوافرة… لكن مع ذلك يجري وضع العراقيل وسدّ المنافذ في طريق هذه الحلول، مما يطرح الأسئلة الكبيرة بشأن من يقف وراء ذلك، ولماذا، وهل هناك ترابط بين مفتعلي الأزمات بالداخل ومعرقلي حلها، وبين الضغط ​الاقتصاد​ي الذي تمارسه الدول الغربية بقيادة أميركا على لبنان منذ ما قبل تفجر ​احتجاجات​ 17 تشرين عام 2019؟

أولاً، تبيّن بوضوح انّ الشركات الاحتكارية الخاصة، ​المحروقات​ و​الأدوية​ والمواد الغذائية، تعمد إلى إخفاء هذه المواد المدعومة وحجبها عن الأسواق، بالاتفاق مع شركائها من السياسيين النافذين في مواقع ​السلطة​، للتسبّب بالأزمات بهدف ​تحقيق​ أمرين:

الأمر الأول، تهريبها إلى الخارج، او بيعها في الداخل بأسعار دولار السوق السوداء وجني الأرباح الطائلة، وهو أمر أماط اللثام عنه ​وزير الصحة​ في حكومة ​تصريف الأعمال​ د. ​حمد حسن​، عندما داهم أحد مستودعات الأدوية واكتشف انّ بعض ​المستلزمات الطبية​ والأدوية يجري بيعها للصيدليات او ​المستشفيات​ بأسعار تفوق ألف مرة سعرها الحقيقي! والأمر ذاته ينسحب على بقية المواد والسلع.

الأمر الثاني، استغلال المضاربين وبعض شركات ​المال​ والصيرفة انسداد الأفق ل​تشكيل الحكومة​، واحتدام الصراع السياسي، والعمل على رفع سعر صرف الدولار، وحصد الأرباح الطائلة من ناحية، وزيادة حدة الأزمة المعيشية من ناحية ثانية…

ثانياً، توظيف تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية، والمعيشية، من خلال العمل على تحميل المسؤولية عنها ل​حزب الله​ وحلفائه لا سيما ​العهد​، من خلال القول بأنهم وراء تعطيل تشكيل الحكومة.. وبالتالي محاولة تأليب الناس ضدّهم لدفعهم إلى تقديم التنازلات للرئيس المكلف ​سعد الحريري​ ل​تأليف​ حكومة جديدة بشروطه تمكنه من التحكّم بقرارها السياسي والاقتصادي لأجل الموافقة على شروط ​صندوق النقد​ الدولي لإقراض لبنان، وهي شروط تعني تكريس ​رفع الدعم​ الذي يكون قد تمّ رفعه قبل تشكيل الحكومة، وخصخصة ما تبقى من مؤسسات خدماتية للدولة بأسعار زهيدة، مثل المرافئ البحرية والجوية، والخليوي والانترنت إلخ… وما يعنيه ذلك من فقدان ​الدولة​ لأهمّ عائداتها المتبقية لديها وتغذي الخزينة، ورهن لبنان لصندوق النقد و​الدول المانحة​.

ثالثاً، وجود ارتباط بين الأطراف المحلية التي تقف وراء سدّ منافذ حلّ الأزمات الاقتصادية والخدماتية عبر التوجه شرقاً، أو شراء احتياجات لبنان من المشتقات النفطية و​الفيول​ من ​إيران​ وب​الليرة اللبنانية​، وبين القرار الأميركي الغربي بزيادة الضغط الاقتصادي ومفاقمة الأزمات المعيشية لانتزاع تنازلات تفضي إلى إنجاز انقلاب سياسي على المعادلة السياسية، قبيل إنجاز الاتفاق مع إيران وبدء مسار التهدئات في المنطقة…

ولهذا فإنّ الغرب بالاتفاق مع أطراف سياسية لبنانية والشركات الاحتكارية، والشركات المالية، يقفون وراء ما يشهده لبنان من تفاقم في أزماته وعرقلة إيجاد الحلول لها لتوظيفها في خدمة أهدافهم السياسية الانقلابية، إما عبر فرض حكومة موالية للغرب، أو توظيفها في ​الانتخابات النيابية​ المقبلة التي لم يعد يفصلنا عنها سوى أشهر، لمحاولة تغيير المعادلة النيابية بما يمكن الأطراف الموالية للغرب من استعادة الأغلبية في البرلمان وإعادة تشكيل السلطة بما يؤمن هيمنتهم عليها وتنفيذ الشروط والإملاءات الأميركية الغربية.. وهو هدف يركز عليه باستمرار رئيس حزب ​القوات​ ​سمير جعجع​ المعروف بارتباطاته القوية ب​واشنطن​ والرياض.

ومن الواضح أنّ تشديد الضغط الاقتصادي وزيادة حدة الأزمة النقدية والمعيشية، يهدف إلى محاولة تحقيق الانقلاب الأميركي ضدّ ​المقاومة​ وحلفائها، قبل إنجاز الاتفاق مع إيران وبدء مسار التهدئة في المنطقة.. وهذا يعني انّ لبنان سيشهد المزيد من الضغط خلال هذه المرحلة.. مما يفرض على تحالف المقاومة و​القوى الوطنية​ التصدي لهذا المخطط الأميركي الغربي المستند إلى الأطراف اللبنانية التابعة له، والعمل على اتخاذ الخطوات العملية التي تحدث انفراجاً في الأزمة، على غرار ما أعلن عنه مؤخراً أمين عام حزب الله سماحة ​السيد حسن نصرالله​، من استعداد لاستيراد البنزين و​المازوت​ من إيران بالليرة اللبنانية اذا عجزت الدولة عن توفير هذه المواد، مما أقلق مافيا المحروقات ودفعها الى المسارعة لاتخاذ قرار تنفيس الازمة، وتوفير البنزين للمحطات لكن بالقطارة، للابقاء على الأزمة.. ما يعني انّ تنفيذ قرار شراء المشتقات النفطية من إيران بواسطة شركات خاصة غير محسوبة على ​المافيا​ المرتبطة ببعض الأطراف السياسية، يسهم في كسر احتكار والتحكم بهذه المواد الحيوية بالنسبة للناس والاقتصاد، والقطاعات الخدماتية، ومنع رفع أسعارها، كما يحبط مخطط توظيف معاناة الناس لفرض الإملاءات والشروط الأميركية الغربية.