يتعرّض "​حزب الله​" لإنتقادات عدّة منذ مدّة، حيث يُطالبه فريق سياسي واسع بالضغط على "التيّار الوطني الحُرّ" لتسهيل ولادة الحُكومة، في حين يُطالبه فريق سياسي آخر بالضغط على "تيّار المُستقبل" للغاية عينها! وحتى الساعة، لم يفعل "الحزب" لا هذه ولا تلك، على الرغم من المُناشدات المُتكرّرة له بالتدخّل، والتي بلغت حدًّا علنيًا ومباشرًا في كلمة رئيس "الوطني الحُرّ" النائب ​جبران باسيل​ أخيرًا. فما هي الأسباب؟.

أوّلاً: إنّ "حزب الله" لا يقوم بأي خُطوة بناء على مصلحة حزبيّة أو آنيّة ضيّقة، كما تفعل أغلبيّة القوى السياسيّة في ​لبنان​، بل يتحرّك من مُنطلق إستراتيجي بحت، ويُخطّط لتحقيق مكاسب بعيدة المدى. من هنا، إنّ "الحزب" يُواجه حاليًا مُشكلة كبيرة، نتيجة الفشل في تشكيل حُكومة جديدة في لبنان، وإستمرار تدهور الأوضاع الإقتصاديّة والمعيشيّة على مُختلف الصعد، لأنّه في ظلّ هكذا وضع لا يعود من السهل تسويق الخُطاب السياسي-العقائدي الذي تراجع إلى الحدود الدُنيا لصالح تقدّم الهُموم المَعيشيّة والحياتيّة. وهذا الواقع يطال جُمهور "المُقاومة"، كما غيره من شرائح المُجتمع اللبناني-بعكس ما يتردّد، لأنّه مهما كبرت مروحة مُساعدات "الحزب" ضُمن بيئته الحاضنة، لا يمكن أن تطال كلّ الناس. أكثر من ذلك، صحيح أنّ تفكّك الدولة وتلاشي السُلطة المركزيّة، يُقويّان منطق الدُويلة على حساب الدولة، لكنّ الأصحّ أيضًا أنّ إشتداد حالات الفقر والعوز على المُستوى اللبناني ككلّ، من شأنه أن يفتح الباب واسعًا أمام دُخول جهات خارجيّة في المُستقبل لضرب الإستقرار الأمني الداخلي، وبالتالي للعمل على زيادة واقع اللاإستقرار والتشرذم، وُصولاً ربما إلى التفتيت الشامل ودفع لبنان نحو السُقوط، ناهيك عن تحميل "الحزب" وسياساته وزر ما يحصل.

ثانيًا: إنّ "حزب الله" كان أوقف بالقُوّة مساعي جرّ لبنان إلى محور آخر، خلال حقبة الإنقسام العامودي الحاد ما بين فريقي "8 و​14 آذار​" السابقين، وهو بالتالي لن يُفرّط على الإطلاق بالتحوّل الذي طرأ خلال الفترة الماضية بخُطاب كلّ من "تيّار المُستقبل" و"الحزب التقدّمي الإشتراكي" اللذين لا يزالان يُمثّلان الثقل الشعبي الأكبر ضُمن بيئتيهما السنيّة والدُرزيّة على التوالي. و"حزب الله" الذي يعرف الثمن الباهظ الذي دفعه رئيس "التيّار الأزرق" سعوديًا، بسبب رفضه المُضيّ قُدمًا بسياسة المُواجهة المَفتوحة مع "الحزب"، لن يقوم بأي خُطوة قد تدفع الأكثريّة السنيّة إلى الموقع المُتشدّد مُجدّدًا. و"الحزب" راض عن نجاح رئيس مجلس النوّاب ​نبيه برّي​، بإعادة كل من رئيس "تيّار المُستقبل" ورئيس "​الحزب التقدمي الإشتراكي​" إلى خُطاب داخلي عقلاني وموضوعي-برأيه، وهو لن يُفرّط بهذا المكسب الإستراتيجي على الإطلاق، لأنّ مرحلة إسقاط وتشتيت قوى "14 آذار" إستغرقت سنوات عدّة، مليئة بالمشاكل والمُناكفات والضُغوط والإغتيالات، إلخ. وبالتالي، لا يجب منح من تبقّى من هذه القوى، أسبابًا كفيلة بإعادة تعويم نفسها، على طبق من فضّة!.

ثالثًا: إنّ "حزب الله" الذي كسب غطاء سياسيًا ومَعنويًّا بالغ الأهميّة عند توقيعه "تفاهم مار مخايل" مع "التيّار الوطني الحُر" في شباط من العام 2006، لن يُفرّط في الوقت عينه بهذا التحالف الإستراتيجي الطابع. فموقف "التيّار" الذي إصطفّ إلى جانب "الحزب" عندما كان هذا الأخير يتعرّض لحصار داخلي واسع ولضُغوط خارجيّة كبرى، لعب دورًا حاسمًا في قلب موازين القوى على الساحة الداخليّة اللبنانيّة، ومكّن "الحزب" من توسيع نُفوذه مع "حلفائه" ضُمن الدولة، وبدّل تموضع لبنان من محور إلى محور، في تحوّل إستراتيجي تاريخيّ واضح. و"الحزب" مُصمّم على عدم التفريط بهذا الإنجاز، لذلك لن يقوم بأي خطوة قد تدفع "التيّار الوطني الحُرّ" إلى إعادة التقوقع طائفيًا، وإلى إعادة إحياء خُطابات وشعارات كانت مرفوعة ضُمن حُدود ما كان يُسمّى "المنطقة الشرقيّة" في زمن الحرب اللبنانيّة.

رابعًا: إن "حزب الله" لن يُفرّط على الإطلاق بما تحقّق من مكاسب إستراتيجيّة عبر "​إتفاق الطائف​"، إلا في مُقابل المزيد من المكاسب. فمع هذا الإتفاق، إنتهى زمن "المارونيّة السياسيّة" التي كانت فيه الطائفة المسيحيّة (والمذهب الماروني بالتحديد) تفرض سيطرتها على أهم المراكز التنفيذيّة في البلاد، لصالح إنطلاق زمن "الحريريّة السياسيّة" لنحو عقد ونصف من الزمن، تحت ستار المشاريع الإقتصاديّة والإستثماريّة لإعادة إعمار لبنان، وما رافقها من هندسات مالية لتمويل هذا المشروع، قبل أن ينتهي هذا الزمن أيضًا، لصالح فرض أمر واقع جديد يتمثّل بزمن "الشيعيّة السياسيّة"، ولو تحت ستار عنوان "محور المقاومة والمُمانعة". فهذا المحور الذي يديره "حزب الله" هو الذي يُحدّد اليوم الخطوط العريضة للسياسة اللبنانيّة الداخليّة والخارجيّة، وهو الذي يُعطي "الضوء الأخضر" لانتخاب هذا الرئيس أو ذاك، ولتشكيل هذه ​الحكومة​ أو تلك، ولإقرار هذا القانون الإنتخابي أو ذاك، إلخ. مع ما يعنيه هذا الأمر من ِإمساك بموازين القوى الداخليّة وبكامل التركيبة السياسيّة الداخليّة. وبالتالي، إذا كان "الحزب" وغيره من القوى أيضًا، غير قادرين ظاهريًا على فرض "المُثالثة" بالدُستور حاليًا، فهم سيعملون على إبقاء الوضع القائم كما هو عليه من دون تغيير، حتى إشعار آخر.

إنطلاقًا من كل ما سبق، من يَنتظر أن يلعب "حزب الله" دورًا يتجاوز دور الوسيط بين التيّارين "البُرتقالي" و"الأزرق" سينتظر كثيرًا، لأنّ "الحزب" لن يقوم بغير مُحاولات مُتكرّرة لتقريب وجهات النظر ولتذليل العقبات، لكن من دون الضغط والفرض على أيّ طرف، لأنّ حساباته الإستراتيجيّة التي تتجاوز البُعد الداخلي إلى الإقليم الواسع، تختلف عن الأهداف الحزبيّة القصيرة النظر للبعض، وعن الأطماع الشخصيّة للبعض الآخر!.