نتّفقُ والمجتمعُ الدوليُّ على اعتبارِ ​النازحين​ السوريّين عِبئًا على ​لبنان​ (المشكلة)، ونَختلفُ وإيّاه على عودتِهم إلى بلادِهم (الحلّ). في يومٍ واحدٍ، 20 حزيران الجاري، زَعمَ جوزف بوريل ممثِّلُ الاتحادِ الأوروبيِّ، أنَّ "النازحين السوريّين لا يُشكّلون مشكلةً اقتصاديّةً في لبنان وأنَّ عودتَهم إلى بلادِهم مرتبطةٌ بإبرامِ الحلِّ السياسيِّ في ​سوريا​". وأعلن الرئيسُ الأميركيُّ جوزف ​بايدن​ أنَّ "عددَ ​اللاجئين​ والنازحين فاقَ 82 مليونًا في جميعِ أنحاءِ ​العالم​، واقترح إعادةَ توطينِهم في بلادِ الاستضافَة". وقَبلَهُما صَدرَ تقريران: واحدٌ سنةَ 2016 عن الأمينِ العامِّ السابق للأممِ المتّحدةِ بان كي مون؛ وآخرُ هذه السنةِ عن الأمينِ العامِّ الحاليّ ​أنطونيو غوتيرس​، يَـحثّان فيهما الدولَ المضيفةَ على "دمجِ النازحين واللاجئين في مجتمعاتِها وصوًلا إلى تجنيسهم".

واجبُ دولةِ لبنان ـــ أين هي ــــ أن تَكِسرَ هذا المنطقَ التآمريَّ الذي، إنْ تَحقّقَ، يُدمِّرُ لبنانَ نهائيًّا. طبعًا، لا يستطيعُ لبنانُ كسرَ هذا المنطِق في كلِّ العالم، لكنَّ رئيسَ الدولةِ العماد ​ميشال عون​ مدعوٌّ إلى أنْ يَقرُنَ الأقوالَ بالأفعال، ويُنظِّمَ، من خلالِ المؤسّساتِ الإنسانيّةِ والأمنيّةِ، عودةَ النازحين السوريّين إلى الحدودِ السوريّةِ بمنأى عن موقفِ المجتمعَين العربيِّ والدُوليّ، وإلّا تكونُ المطالبةُ بعودتِهم "رفعَ عتَب".

مِمَّ يَخافُ لبنان؟ من العقوباتِ؟ فقد صَدرت. من الانهيارِ؟ فقد حَصَل. من الفَقرِ؟ فقد انتشَر. من وقفِ المساعدات؟ فقد توقّفت. لا يُرَدُّ بالسكوتِ والتراجعِ على المؤامرةِ الدوليّةِ الراميةِ إلى توطينِ النازحين واللاجئين، بل بالمواجهةِ وخلقِ أمرٍ واقعٍ معاكِس. وما إِنْ يبدأُ لبنانُ بجمعِ النازحين وترحيلِهم إلى بلادِهم بسلطةِ القانون، حتّى نرى الدولَ تَهرعُ إلى الاستلحاقِ والالتحاقِ بالخُطّةِ اللبنانيّة، فتستقبِلُهم في سوريا عِوضَ أن تُثــبِّــتَهم في لبنان. المجتمعُ الدوليُّ جبانٌ، فلا نَكونَنَّ مثلَه.

الخطورةُ في الأمر أنَّ الأممَ المتّحدةَ، بدعمٍ عربيٍّ ودوليٍّ، وبتواطؤٍ مع عددٍ من الجمعيّاتِ غيِر الحكومّيةِ اللبنانيّةِ والأجنبيّةONG ، تُقدِّمُ عَملَها في لبنانَ نموذجًا لنجاحِها في إدارةِ شؤونِ مليونٍ ونِصفِ مليونِ نازحٍ في بقعةٍ صغيرة. هذه ساديّةٌ غيرُ إنسانيّةٍ. ويقومُ الطاقَمُ الدُوليُّ التابعُ للمفوضيّةِ العليا لشؤونِ اللاجئين السوريّين" UNHCR بإعطاءِ محاضراتٍ في ​نيويورك​ وجنيف و​بروكسل​ وغيرِها حول "التجربةِ اللبنانية". هكذا، بعدَ أن أردْنا لبنانَ نموذجًا للتعايشِ المسيحيِّ/الإسلاميّ، حَوّلتْه الأممُ المتّحدةُ نموذجًا للتعايشِ بين المواطنين اللبنانيّين والنازحين السوريّين.

إن مقاربةَ موضوعِ النازحين السوريّين في لبنان من زاويةٍ إنسانيّةٍ فقطـ، هو خطأٌ استراتيجيٌّ وتكرارٌ، بدونِ تصحيحٍ وتنقيحٍ، للخطأِ الذي سَــبقَ وارتكـــبَــه المجتمعُ الدولي ذاتُـــه في مَـــلفِّ اللاجئين ال​فلسطين​يّين. فالنزوحُ السوريُّ في لبنان هو أزْمةٌ سياسيّةٌ ووطنيّةٌ قبلَ أن يكونَ أزمةً إنسانيّة، إذ نَشأَ عن حربٍ لا عن كارثةٍ طبيعيّة. وبالتالي يَــتحـــتَّمُ أن تكونَ مقاربتُـــه سياسيةً بَحتة، خصوصاً أنّه مرتبطٌ بثلاثةِ معطياتٍ، واحدُها أخطرُ من الآخر: النظرةُ السوريّةُ التاريخيّةُ إلى لبنان، مخطّــطاتُ التهجيرِ التي تَـــعُــــمُّ الشرقَ الأوسط، والفَرزُ المذهبيُّ المتَــــعـــمَّــدُ في حربِ سوريا.

مشكلةُ النازحين السوريّين لا تَرتبط بلبنانَ فقط لكي نَصبِرَ عليها، ولا بالعَلاقاتِ اللبنانيّةِ ـــ السوريّةِ فقط لكي نكتفيَ بالتواصُلِ الثنائي. إنها جُزءٌ من مشروعِ نقلٍ سكّانيٍّ جَماعيٍّ لشعوبِ دولِ المشرِقِ في ​العراق​ و​الأردن​ وسوريا ولبنان وفلسطين. ولذلك يُصِرُّ المجتمعُ الدوليُّ على ربطِ إعادةِ النازحين بالحلِّ السياسيِّ النهائيِّ في سوريا، وحتى في المِنطقةِ، ريثما تتبلورُ الخريطةُ الديمغرافيّةُ والكيانيّة.

وَضَعَت هذا المشروعِ دولٌ كبرى تحت ستارِ تغييرِ الأنظمة، وتورَّطت فيه شعوبُ الـمِنطقةِ تحت ستارِ "​الربيع العربي​"، واشترَكَت فيه أنظمةُ الـمِنطقةِ تحت ستارِ المحافظةِ على وجودِها، ورَعَته الأممُ المتّحدةُ تحت ستارِ العاملِ الإنسانيِّ، ودَفعَ ثمنَه الفقراء، وحَملَت وِزْرَه الدولُ الضعيفة. وإذا كانت الحروبُ سبَّبت النقلَ السكانيَّ (الترانسفير)، فهذا بدورِه سيَتسبَّبُ بحروبٍ جديدة.

غائيّةُ هذا المشروعِ أساسًا هي التالية: 1) تغييرُ كِياناتِ دولِ الـمِـنطقةِ وهوّياتِها القوميّةِ والديمغرافيّة. 2) إقامةُ حِزامٍ أمنيٍّ دائمٍ متعدِّدِ ​الطوائف​ حولَ الكِيان الإسرائيليّ. 3) التجاوبُ مع أحلامِ عددٍ من الأقليّاتِ الإسلاميّةِ الباحثةِ عن حكمٍ ذاتيٍّ واستقلال. 4) منعُ وجودِ كياناتٍ كبيرةٍ تحاولُ لَعِبَ دورِ الدولةِ الإقليميّةِ الكبرى. 5) إنهاءُ مشروعِ القوميّةِ العربيّةِ الذي انطلَق من المشرِق. 6) خلقُ حالةِ توتّرٍ دائمةٍ بين مكوّناتِ المشرِقِ لتحجيمِ دورِها وإلهائِها في ما بينَها.

بعيدًا عن المبادئِ الوطنيّةِ والإنسانيّةِ والأخوّية والخرائط، يكفي اعتمادُ مبدأِ الحسابِ لنكتَشِفَ استحالةَ أن يَتحمّلَ لبنانُ نحو مليونٍ ونِصفِ مليونِ نازحٍ سوريٍّ، أي 40% من سكّانِه، فيما مساحتُه 10.452 كلم²، وعددُ مواطنيه 4 ملايين، والبطالةُ فيه فاقَت الــــ 47% من قِواه العامِلة، والفَقرُ تعدّى الــــ 51% بين شعبِه، والمديونيّةُ ناهزَت الـــ 100 مليونِ ​دولار​، والعُملةُ الوطنيّةُ خَسِرت 85% من قيمتِها، والنموُّ ينوءُ تحت الصِفر، والمصارفُ مُفلِسةٌ من دونِ إعلان، وهِجرةُ أبنائِه زادَت نحو 42% منذ سنةِ 2019.

إنَّ كلَّ يومِ تأخيرٍ في إعادةِ النازحين السوريّين إلى بلادِهم يَرفعُ نسبةَ الخطرِ عليهم وعلى لبنان، خصوصًا إذا تَدهورَ الوضعُ الأمنيّ. نحنُ أمامَ مشكلةٍ مزدوجةٍ: 1) إذا استعادَت سوريا وِحدتَها الجغرافيّةَ كاملةً، سيُقنِّنُ النظامُ عودةَ النازحين لاعتباراتٍ طائفيّةٍ ومذهبيّةٍ وعقائديّة؛ فأعمالُ الفرزِ السُكّانيِّ المدروسِ التي قام بها النظامُ عسكريًّا منذُ سنةِ 2011 لن يعودَ عنها ديبلوماسيًّا كُرمى لعيونِ لبنان. 2) وإذا أُعيدَ النظرُ بوِحدةِ سوريا المركزيّةِ على أساسٍ مَذهبيّ، تَتعقّدُ عودةُ النازحين أيضًا بسببِ بِدائيةِ المؤسّساتِ المناطقيّةِ ​الجديدة​ وفِقدانِ مُستنداتِ الأحوالِ الشخصيّةِ وإشكاليّةِ التهجيرِ الداخليّ.

أثناءَ الحربِ في سوريا، كان لبنانُ معنيًّا إنسانيًّا باستضافةِ النازحين، وقد استَقبل أعدادًا تَفوق طاقتَه وظروفَه الخاصّة. اليومَ، وقد بَلغَت الحربُ هناك نهايتَها العسكريّة، لا يجوزُ للنازحين أن يَبقَوا بعدُ على أراضيه وقد طَوَوا سنتَهم العاشرة. استَضفْناهم منعًا لتعرُّضِهم للموتِ إبّانَ القتال، ونطالبُ بعودتِهم إلى سوريا منعًا لتعرُّضِهم للفَقرِ والشقاءِ والذُّلِ في لبنان. والّذين يحاولون أنْ يُشعِرونا بعِقدةِ ذنْبٍ وبقِلّةِ روحٍ إنسانيّة، أوْلى بهم أنْ يَشعُروا، هم، بنَقصٍ في الوطنيّةِ والولاءِ للبنان. هذه شعاراتٌ لا تؤثّرُ فينا. أدَّيْنا قِسْطَنا للنازحين وللإنسانيّةِ أكثرَ من أيِّ دولةٍ عربيّةٍ وأجنبيّة أخرى. لكن، ما للإنسانيّةِ للإنسانيّةِ، وما للبنانَ للبنان. ومَن قَدَّمَ للنازحين السوريّين ما قَدَّمه لهم لبنانُ الصغيرُ والفقيرُ والمديونُ والمأزومُ والمنكوبُ، فلْــيَرفعْ إصبَعه على طولِ طريقِ ​الشام​...