كَشفَ اللهُ نفسَهُ للإنسانِ لِيكونَ الإنسانُ على مِثالِ الله. تَواصَلَ معَهُ لِيَتَّحِدَ بِه. فكانَ اللهُ أوّلَ مُعلِنٍ في الكَون، وإعلانُهُ خلاصِيٌّ وحَياةٌ أبديَّة. فحتّى بعد أن سَقطَ الإنسانُ لم يترُكْه الله، بل تَجسَّدَ ونَزلَ أرضَنا لِيرفعَنا إلى سماواتِهِ ويُعيدَنا إليه.

لذا، مهما اختَلفتِ الظُّروفُ، حَياتُنا لَيست عَبَثِيّةً بل لها قَصدٌ وهُوَ القَداسَة.

يكتبُ الكاهنُ المُتخَصِّصُ في الإعلامِ، ومُديرُ تَحريرِ Orthodoxie.com، Christophe Levalois في كِتابِهِ Prendre soin de l 'autre، عنِ التَّواصُلِ والشَّراكةِ مَعَ الآخَر Communication et Communion، شارِحًا أنَّ للكَلِمَتَين الجَذرَ اللاتينيَّ نفسَه communicare et communis، وهذا أمرٌ شائعٌ في عِلمِ اللُّغاتِ وأُصولِ الكَلِماتِ وجُذورِها.

ومَعروفٌ أيضًا أنَّ سببَ وُجودِ الكَلِماتِ في اللُّغات هُوَ للتّعبير. فمثلًا كلمَةُ "حُريّة"، في أيَّةِ لُغَةٍ وُجِدَت تُعبِّرُ عن انتِقالٍ مِنَ العُبودِيَّةِ إلى التَّحرُّر، وليس الى العَبَثِيّةِ كما هُوَ شائِعٌ اليومَ عِندَ كَثيرِين. وهذا الانتقَالُ هو للأفضَلِ، وللتَّرتِيبِ والتَّنظيم، وليس للخُضوعِ لِعُبُودِيَّةٍ مِن نَوعٍ آخَر. كَذلِكَ هُوَ الحالُ معَ التَّواصُلِ والصِّلَة.

إلّا أنَّه بَعدَ القَرنِ السَّادِسَ عَشَرَ ميلادِيّ، بدأ التَّمايُزُ يَظهَرُ ويَكبُرُ بينَ التَّواصُلِ، والشَّراكَةِ، إلى أن بَلَغَ حَدَّ الافتِراق، ومنه انتَقَلَ إلى التَّضاد، وبدَلَ أن يَكونَ مُساعِدًا للإنسانِ، صارَ يُشكِّلُ، في كثيرٍ مِنَ الأحيانِ، عِبئًا عليه، ويَخلُقُ عندَ المُتَلقّي فَوضى وضَجيجًا، ويلِدُ تَشتُّتًا للأفكارِ، فانقسامًا داخِلَ الإنسانِ، فانعِدامُ السَّلام.

إنَّ الإنسانَ في الأَساسِ كائِنٌ لِيتورجِيّ، يبحَثُ عنِ السَّلامِ الإلهيّ، أأدرَكَ ذَلِكَ أم جَهِلَهُ، لكنَّهُ أصبَحَ يَرزَحُ تحتَ قَصفٍ يَوميٍّ ومُرَكَّزٍ مِنَ التَّواصُلِ، وكلّما ازدادَ تَطوُّرُ وَسائِلِ التَّواصُلِ ازدادَت معَهُ حِدَّةُ القَصف. وإذا أمعَنَّا الفَحصَ والتَّدقيقَ لِتمييزِ الجَيِّدِ من السَّيءِ فيما يَتلقَّاهُ الإنسانُ، لوَجَدنا الكَفَّةَ تَميلُ إلى السَّيء. يا للأَسَفِ هذا واقِعُنا.

للإنسانِ هُويَّتان، الأُولى سَماويَّةٌ، والثَّانيةُ أرضِيَّة.

في الأُولى أبوهُ الرَّبُّ يسوعُ المَسيحُ، الّذي تَجسَّدَ وصُلِبَ وقامَ مِن بينِ الأمواتِ، وأقامَهُ مَعَه لِحياةٍ أبَدِيَّة. ومَا حياتُنا على الأرضِ، في أَيِّ مَوطِنٍ حَلَلنا، إلّا تحقيقٌ للهُويَّةِ الثَّانيةِ إن جَاهَدنا الجِهادَ الحَسن.

اللّاهوتُ، خاصَّةً الشَّرقِي، يُشَدِّدُ على أنَّ الإنسانَ عَالَمٌ صَغيرٌ micro cosmos، وغَيرُ مُنفَصِلٍ عَنِ اللهِ بَتاتًا، لا بَل مَخلوقٌ لِيَتَّحِدَ باللهِ فَيتألَّهُ ويَتقَدَّس.

وقد أعطانا الرَّبُّ مَثَلَ الكَرمَةِ، وهو خَيرُ تَجسيدٍ لِمبدأ التَّواصُلِ الصَّحيحِ، والاتِّحادِ بِالله: "اُثْبُتُوا فِيَّ وَأَنَا فِيكُمْ. كَمَا أَنَّ الْغُصْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَأْتِيَ بِثَمَرٍ مِنْ ذَاتِهِ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْكَرْمَةِ، كَذلِكَ أَنْتُمْ أَيْضًا إِنْ لَمْ تَثْبُتُوا فِيَّ." (يوحنا ٤:١٥).

فالرَّبُّ أخَذَ صُورَتَنا، لِنَقتَبِلَ الإلَهيَّاتِ إن ثَبَتنا فِيهِ، ومَن يَفقِدُ هذا التَّواصُلَ والصِّلَةَ يَتُوه. وكما أنَّ الغِذاءَ في الكَرمَةِ يكونُ مِنَ الأُم إلى الأَغصان، كَذلِكَ نتغذّى منَ الرُّوحِ القُدُس. مِن هُنا فالأَحَدُ الّذي يَلي أَحدَ العَنصَرة، هُوَ أحدُ جَميعِ القِدِّيسين، الّذين امتلأوا مِن هَذا الرُّوحِ المُحيي والمُؤلِّهِ بعدَ أن ثَبَتُوا بِالرَّب.

لَفَتني قَولٌ في كِتابِ " La Penseé Blanche"، للاعِبِ كُرَةِ القَدمِ الفَرنسيّ الشَّهير، Liliane Thuram، يقولُ فيه: On ne naît pas blanc, on le devient، أي نَحنُ لا نُولَدُ بِيضًا، نَحنُ نُصبِحُ كَذَلِك. وقَصدُ هذا الكاتِبِ صاحِبِ البَشَرةِ السَّوداءِ، والّذي أقامَ مَعرضًا مَشهورًا عنِ الاستِعباد، أن ليسَ لَونُ البَشَرَةِ ما يَهُمّ، أناصِعي البَياضِ مثلًا إن كُنّا مِن أصحابِ البَشَرَةِ البَيضاءِ، أوِ العكس، بَل ما يَهُمُّ أن يكونَ قلبُنُا أبيَضَ.

نعم، نَحنُ لا نَكونُ مَسيحيّينَ إلّا بِعَيشِنا لمَسيحيَّتِنا، بِإفراغِ ذواتِنا، بِالتَّوبَةِ والاتّضاعِ، ونُتَرجِمها مَحبَّةً، كما قَالَ القِدّيسُ يُوحنّا الإنجيليّ: "أيُّهَا الأَحِبَّاءُ، لِنُحِبَّ بَعْضُنَا بَعْضًا، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ وَيَعْرِفُ اللهَ. وَمَنْ لاَ يُحِبُّ لَمْ يَعْرِفِ اللهَ، لأَنَّ اللهَ مَحَبَّةٌ." (١ يوحنا ٧:٤-٨).

في الخِتامِ، أذكُرُ أمرًا قامَ بِهِ الفَيلسوفُ Diogène de Sinope (القرن الرّابع قبل ​الميلاد​)، بَعدَ انتِقادِهِ تَعريفَ أفلاطُونَ للإنسانِ على أنَّهُ حَيوانٌ ذو قَدَمَين ولا رِيشَ له، فما كانَ من ذاك الفيلسوفِ إلاّ أن جَلبَ إلى الأكاديميّة دجاجةً "منتوف ريشها" وقَالَ: "ها هُوَ إنسانُ أفلاطون"، وتابَعَ "على كُلِّ فَردٍ أن يَستَخدِمَ عقلَهُ لِتَوجيهِ سُلوكِهِ وعَيشِ الحَياةِ المُثلى"، كما سار مرّة في وضح النهار في شوارع ​أثينا​ حاملًا فانوسَا وقال: "أبحث عن الإنسان/ الإنسانيّة

l'être humain / l’humanité Je cherche".

وهُنا يُطرَحُ السُّؤالُ: "كيفَ للعَقلِ أن يُرشِدَ صاحِبَهُ إرشادًا صَحيحًا إن لم يَستنِرْ؟ وهذهِ الاستِنارَةُ مَصدَرُها الّذي نَقولُ عَنهُ "نُور مِن نُورٍ إله حقّ من إلهٍ حَقّ"، وبِدونِه يَنتُفُ بَعضُنا رِيشَ بَعضِنا الآخَر ولا نكون بشرًا. إلى الرَّبِّ نَطلُب.