مِن ألقابِ الرَّبِّ يسوعَ المسيحِ لَقَبُ "المُعلِّم".

هُوَ المُعلِّمُ الأوَّلُ والدَّائم. المُعلِّمونَ اليَهودُ بُهتُوا مِن تَعليمِهِ وفَهمِهِ عندما كان في الثانيةَ عشرة مِن عُمره. كَذلك تَعجَّبَ الفَرّيسيُّونَ مِنهُ عِندما كان يُعلِّمُ في الهَيكَلِ قَائِلِينَ: «كَيْفَ هذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ، وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟» (يوحنا ١٥:٧). كَما اندَهَشتِ الجُموعُ مِن تَعلِيمِهِ كَصاحِبِ سُلطَانٍ وليسَ كالكَتَبة (متى ٢٨:٧-٢٩).

هذا المُعلِّمُ الإلهيُّ إختارَ له تَلامِيذ. لم يَكونُوا كَامِلينَ لأنّه هُوَ وَحدَهُ الكامِل، ولَكنَّهم كانوا على استِعدادٍ لأن يَسيرُوا مَعَه حتّى النّهاية، وهَذا ما فَعلُوه وإن كانت سيرَتُهم لا تخلو مِن التَّخبُّطِ في بَعضِ الأحيان، إلاّ أنّ نهايَتَهم كانت بِدايةً جديدة وحياةً جديدة.

بُطرسُ الرَّسولُ أنكَرَهُ ثلاثَ مَرّاتٍ، لَكِنَّهُ بِالمُقابل بَكى بُكاءً مُرًّا وعادَ، فاستَقبَلَهُ الرَّبُّ استقبَالَ الآباءِ للأبنَاء، فَأضحى بُطرسُ خيرَ مِثالٍ لنا في التَّوبَةِ الصَّادِقَةِ التي هي بمثابَةِ وِلادَةٍ جَديدة.

يُوحنّا الإنجيليُّ وأخوه يَعقوبُ تَنافَسا على الجُلوسِ عن يَمينِ الرَّبِّ ويَسارِهِ، حَتّى أنّهما طَلبا مِن أُمِّهما أن تَتوسَّطَ لَهُما عِندَ الرَّب لِتحقيقِ ذَلك. فكان جوابُ الرَّبِّ لهما حَملُ الصَّليبِ هُو الطَّريق. (متى ٢٠:٢٠)

تُوما الرَّسولُ شَكَّ بِقيامَةِ الرَّب، فعادَ وظَهَرَ يَسوعُ خِصّيصًا له، عِندَها صَرخَ تُوما "ربّي وإلهي" لِتُصبِحَ صَرختُهُ مُجَلجِلَةً في كُلِّ الأزمَان(يوحنا ٢٨:٢٠).

ولا يَخلو التلاميذُ الباقون مِن تَصرُّفاتٍ ومَواقِفَ مُماثِلة، وإن لم تُذكَرْ في الأناجِيل، إلا أنَّنا نَتلَمَّسُ شيئًا مِنها، إذ نَقرَأُ أنَّ كلامَ حاملاتِ الطِّيبِ لَهم بِأنَّ الربَّ قد قَام، كانَ كالهَذَيان ولم يُصدِّقُوهُنَّ في بَادِئ الأمر، لِدرَجَةٍ أنَّ الرَّب ظَهَرَ لِلأَحَدَ عَشَرَ وَوَبَّخَ عَدَمَ إِيمَانِهِمْ وَقَسَاوَةَ قُلُوبِهِمْ، لأَنَّهُمْ لَمْ يُصَدِّقُوا الَّذِينَ نَظَرُوهُ قَدْ قَامَ(مرقس ١٤:١٦).

فَتلامِيذُ الرَّبِّ إذًا مِثلَنا، هُم بَشَرٌ لهم ضُعُفاتُهم، ولكنَّهُم تَغَلَّبُوا عَليها بِالرُّوحِ القُدُس، وبَشَّروا المَسكُونَةَ جَمعاءَ، مُحَقِّقينَ بِذلكَ قَولَ المَزمور: "فِي كُلِّ الأَرْضِ خَرَجَ مَنْطِقُهُمْ، وَإِلَى أَقْصَى الْمَسْكُونَةِ كَلِمَاتُهُمْ"(مز ٤:١٩).

الرَّبُّ يُريدُنا جَميعَنا تَلامِيذَ له، ولَيسَ لِواحِدِنا أن يَتحَجَّجَ بِضُعفِهِ، فَمريمُ المَجدلِيَّةُ بَشَّرتِ الإمبرَاطورَ في رُوما بِقِيامَةِ الرَّبِّ، وهي الّتي أَخرَجَ مِنها سَبعَةَ شَياطين. كَذلِكَ المَرأةُ السَّامِريَّةُ التي كان لها خَمسةُ أزواجٍ ومَن كانت تعيشُ مَعَهُ كانَ السَّادِسَ، عِندما التَقَتِ الرَّبَّ بَشَّرَتْ مَدينَتَها ودُعِيت مُنِيرَةً لأنَّها استَنارَت.

هَذِهِ دَعوةٌ مُستَمِرَّةٌ لَنا، وها الكَنيسةُ في هذا الأحَدِ بَعدَ أن خَتَمنا زَمنَ البنديكُستارِيون، أي الزَّمنَ الخَمسينيّ مَعَ أحَدِ جَميعِ القِدِّيسينَ الّذي يَلي أحدَ العَنصَرة، تَعودُ لِتَضَعَ أمامَنا نَصَّ دَعوةِ الرَّبِّ لِتَلامِيذِه، كَأنَّها بِذَلِكَ تَدعُو كُلَّ واحِدٍ مِنّا أن يُماثِلَهم.

وهُنا يَنتَصِبُ أمامَنا مَوضُوعٌ في غَايَةِ الأهَميَّةِ ألا وَهُوَ التَّلمَذَة، فَأستَعيرُ بِذَلِكَ مُقدِّمَةً مَوجُودَةً في رِوايَةٍ رَائِعَةٍ جِدًّا مِنَ القَرنِ التَّاسِعَ عَشرَ بِعُنوان " Le Disciple التّلميذ" للكاتِبِ الفَرنسيّ Paul Bourget، وهِيَ مُوَجَّهةٌ للشَّباب.

ولأهَميَّةِ الرّوايَةِ تُصنَّفُ في خَانَةِ "Roman à thèse"، أي رِوايةٍ تَحمِلُ رِسالةً مُهِمَّةً جِدًّا مِنَ النَّاحِيةِ النَّفسيَّةِ والتَّعليمِيَّةِ والاجتِماعِيَّةِ والوَطنِيَّة، وتُعَدُّ كأُطرُوحَة.

نقتطِفُ ممّا يَقولُه Bourget في المُقَدِّمَةُ: "يا شابًّا مِن بَلادي، أعرِفُهُ جَيّدًا (ولا أعرِفُ عَنهُ شيئًا)... تَبحَثُ في مُجَلَّداتِنا، نَحنُ المُسِنّينَ، عن أَجوِبَةٍ لأسئِلَةٍ تُعَذِّبُك مع أقرانِك... والإجاباتُ التي تَجدُها تعتَمِدُ قليلًا على حَياتِكَ الأخلاقِيَّةِ، وعلى رُوحِك". ويتوسَّلُ الشَّبابَ "للعَمَلِ مِن أجلِ استِعادَةِ الوَطنِ المُتَدهوِر". ويَتكلَّمُ الكاتِبُ على عُذريَّةِ الضَّميرِ المُقَدَّسَةِ الّتي لا تُمَسُّ بِالرُّغمِ مِن كُلِّ الأُمورِ السَّيئةِ الّتي قد يُواجِهُها ​الإنسان​ُ في حَياتِه.

لاهُوتِيًّا نَحنُ نَقولُ إنَّها صُورةُ اللهِ الّتي لم تَختفِ في الإنسانِ بَعدَ سُقوطِه، وتَعودُ لِتُشِعَّ إن فعّلَ الإنسانُ الرُّوحَ القُدُسَ فيه.

وبالعودة إلى التلمذة، نحن في حَياتِنا الرُّوحِيَّةِ نُسَمّي المُعَلِّمَ "الأبَ الرّوحِيّ" المُلهَم، وهُوَ بِدَورِه ابنٌ رُوحيٌّ لِمُعلِّمٍ آخَر، وهَكذا دَوالَيك لأنَّنا في النِّهايَةِ أبناءٌ رُوحيّونَ لِمُعلِّمٍ واحدٍ وأبٍ واحِد هو يَسوعُنا الحَبيب.

خُوفُنا الدَّائمُ أن يَلتَقِيَ اليَافِعُونَ بِمُعلِّمينَ كَذَبَةٍ فَيَقعُونَ مَعهم في حُفرَةِ الضَّلال، لِذا عَلينا أن نَجتَهِدَ دَومًا لِنَكونَ المِثالَ الصَّالِحَ، ونَبكي بُكاءَ بُطرسَ الحَارَّ لِنعودَ ونَرعى خِرافَ يَسوع.

فلَيسَ كُلُّ مُعلِّمٍ مُعلِّمًا حَقيقيًّا، لأنَّ المُعلِّمَ هو في الحَقيقةِ سَيِّدٌMaître ، لا لِيَسودَ بِالظُّلمِ والسُّوءِ بَل بِالمَحبَّةِ والمَعرِفَةِ، مِن هُنا نَحنُ نُطلِقُ على الرَّبِّ لقَبَ السيِّدِ والمُعلِّم.

بالمقابل يُضيءُ لنا عِلمُ اللُّغاتِ على أمرٍ رائعٍ وعَميقٍ جِدًّا في جَذرِ كَلِمَتَي معلِّم Maître وتِلميذ Disciple. الكلمتان تبدوان للوهلَةِ الأُولى في تَضادٍ، لكنَّهما لا تلبثانِ أن تكتمِلا بِشكلٍ مُتماسِك. فكَلِمَةُ magister أي maître في اللاتينيّة مِن magis لها الجَذرُ الهندو-أوروبي نفسُه meg (h) في اللاتينيّة magnus أو في اليونانيّة megas وكلُّها تعني "كبير".

كذلك pullus في اللاتينيّة والتي تأتي قبل discere أي التَّعلُّم، تُشَكلّان معًا كلمة discipulus أي صَغير أو شاب.

وإذا رَسَمنا العلاقةَ الإنسانيّةَ بينَ الكَبيرِ والصَّغير نَجِدُ المَقصودَ والمُرتَجى. الكَبيرُ الذي هو الرَّبُّ يُريدُنا أن نَكبُرَ بِه. فهذِهِ العَلاقَةُ "أستاذ- تلميذ" أو "معلّم-تلميذ" أو "سيّد- تلميذ" هي في الأساسِ عَلاقةُ رِفعةٍ وكَمالٍ، إن كانَ المُعلّمُ مُعلِّمًا صَالِحًا، فكم بالحَري الإلهُ المُتجسِّدُ نفسُه؟

وهذه العلاقةُ تتبَلوَرُ نتيجَةَ مُرافَقةٍ وتَوجيهٍ وبُنوّةٍ حَقيقيَّةٍ، لِتظهَرَ الجَوهرةُ المَوجودَةُ داخِلَ كُلٍّ منّا، إذ لِكُلِّ شَخصٍ فرادَتُهُ وقِيمُهُ valeurs personnelles ، وهذا ما ظَهرَ بِوضوحٍ بين الإنجيليّينَ متّى ويوحنَا اللذَين هُما تلميذان للرَّب، وقد كتَبَا بِالرُّوحِ القُدُس كُلٌّ على طريقَتِهِ مِن دونِ أن يُلغِيَ اللهُ شخصيَّتَهما. وذلك لأن هناك علاقَةَ عِشق éros بينَ اللهِ والإنسان، وهذا العِشقُ لا يُمكِنُ أن يكونَ إلّا بِعَيشِ المَحبَّةِ الكامِلةِ واللامُتناهِية.

ختامًا، يضعُ الرَّبُّ أمامَنا نفسَه كَمِثالٍ قائلًا: "تَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ"(متى ٢٩:١١). وهو يريدُنا أن نكونَ تَلاميذَ وُدَعاءَ ومُتواضِعي القَلبِ مِثلَهُ، لِننقُلَ راحَةَ الرَّبِّ للآخَرِين. إلى الرَّبِّ نَطلُب.