توثق المراسلات المتبادلة بين ملوك المملكة العربية ​السعودية​ وأمرائها ومسؤوليها والبطاركة الموارنة خلال القرن الماضي عمق العلاقة والتعاون والصداقة والتقدير بين الجانبين، وهي علاقة متينة تمتد من فترة ما بعد استقلال لبنان، وتتصل بالجوانب القومية والسياسية والخدماتية، وتثبت دعم المملكة العربية السعودية الثابت المتين للعيش المشترك في لبنان.

وينشر الكتاب هذه الرسائل من أرشيف البطريركية المارونية في بكركي في عهود البطاركة الموارنة: أنطون عريضة (1932 - 1955)، وبولس المعوشي (1955 - 1975)، وأنطونيوس خريش (1975 - 1986)، ونصر الله صفير (1986 - 2011).

وتبرز الرسائل المودة والاحترام والتقدير والإيجابية التي طبعت أسلوب البطاركة والملوك والأمراء السعوديين في التخاطب فيما بينهم. ولم يبتعد التخاطب عن التأكيد على الشق الوطني، وامتنان البطريركية المارونية للأيادي البيضاء السعودية في لبنان المستمرة منذ ذلك الوقت.

ففي رسالة البطريرك أنطون عريضة إلى الملك سعود بن عبد العزيز، قال في معرض تهنئته باعتلائه العرش: «كان سرورنا عظيماً باعتلاء جلالتكم عرش المفقود له والدكم العظيم الحميد الذكر الخالد الأثر صاحب الأيادي البيضاء على قضية العرب عامة، وقضية لبنان خاصة. فتفضلوا -يا صاحب الجلالة- بقبول عواطف الود والولاء التي ربطت بين عرشكم وبين هذه السدة البطريركيّة، لتزداد الصداقة المتبادلة رسوخاً وثيقاً في عهدكم الميمون».

وكان الرد من الملك الراحل سعود بن عبد العزيز أن شكر البطريرك أنطون عريضة على تهانيه. وعن استقباله للوفد البطريركي الذي زاره في المملكة، قال شاكراً مقدراً: «قابلنا وفدكم الكريم، برئاسة سيادة المطران عبد الله نجيم، وأنِسْنا بالتحدث إليه، والاستماع إلى الكلمة الطيبة التي ألقاها في مجلسنا، مما دل على المدى الواسع والأواصر المتينة التي تربط شعبينا وبلدينا برباط العروبة المتين الذي نسجته أيدي العصور العابرة، وتركته لنا خير تراثٍ، لنزيد في متانته وقوة أواصره لخير العرب جميعاً».

وأكد الملك سعود بن عبد العزيز أن «خير العرب في اتحادهم ووقوفهم كالبنيان المرصوص في الذود عن حقوقهم، والتعاون الصادق في رفع مستوى أقطارهم، حتى يبلغوا الأمل المنشود، والغاية النبيلة التي يعملون من أجلها، فيبعثوا حضارة العرب، ويعيدوا إضاءة نبراس العلوم فيها، وليعم الخير والبركة للعالم أجمع».

وتتنوع الرسائل من التهاني في المناسبات إلى الشكر على الزيارات، وطلب الاهتمام بشخصيات لبنانية تزور المملكة العربية السعودية. وتشير الردود إلى المكرمة الملكية في الاستجابة للطلبات، وتؤكد على العلاقات المتينة بين البطاركة وملوك السعودية وأمرائها.

وتظهر إحدى الوثائق رسالة للبطريرك أنطون عريضة، أوصى فيها صديقه الملك سعود بن عبد العزيز بشاعر العرب الأكبر بشاره الخوري (الأخطل الصغير) ورعايته، وقال فيها: «إن شاعرنا الكبير الذي تفضلتم باستقباله في دياركم العامرة كان -ولم يزل- الداعية الأكبر للعروبة، موحداً شعوبها على طريق التعاون والمحبة والسلام». وأضاف: «لأنكم، برعايتكم للأخطل الصغير، ترعون جميع اللبنانيين والعرب أجمعين، خصوصاً هذا الكرسي الذي يدعو لكم بالسعادة والتوفيق، يا طويل العمر».

- حرص سعودي على استقلال لبنان

ولطالما أثبتت الخطابات المتبادلة الرعاية والاهتمام الدائمين من قبل الملوك والأمراء للبنانيين. ففي رسالة للملك سعود بن عبد العزيز، أكد للبطريرك بولس المعوشي أن «ما يلقاه أبناء لبنان من رعاية وحسن معاملة هو واجب»، وقال: «إن ما يلقاه أبناء لبنان في بلادنا من رعاية ومعاملة حسنة، وما ينعمون به من طمأنينة واستقرار، إنْ هو إلا واجب لهم، تليه روابط الأخوة والصداقة التي تربط البلدين والشعبين الشقيقين».

وتثبت الوثائق امتنان البطاركة للدور السعودي الحريص على استقلال لبنان وحريته وسلامته. ففي رسالة للملك سعود بن عبد العزيز، تمنى البطريرك بولس المعوشي العافية والتوفيق للملك، واستذكر زيارته عندما كان لا يزال ولياً للعهد للدار البطريركية في لبنان، قائلاً: «نحن ممن يتمنون لكم العافية والتوفيق، ولا نزال نذكر زيارتكم الكريمة للدار البطريركية في بكركي. وقد كان لها أجمل الوقع في قلوب اللبنانيين الذين يعلمون ما ينطوي عليه قلبكم الكبير من المودة لهم، والحرص على استقلال لبنان وحريته وسلامته».

وفي رسالة أخرى من الملك فيصل بن عبد العزيز، أكد للبطريرك بولس المعوشي أن علاقات الإخاء المبنية بين لبنان والسعودية وسائر الأقطار العربية تزداد متانة، وقال فيها: «إنني أشاطركم الأماني في أن تزداد علاقات الإخاء المتينة قوة ونمواً بين بلدينا الشقيقين بصورة خاصة، وبين سائر الأقطار العربية الشقيقة بصفة عامة، وأن يحفظ كيان أمتنا من كل سوء».

- تجاوب الملك فيصل مع دعوة البابا للانفتاح

وفي وثيقة أخرى، أثنى البطريرك بولس المعوشي على تجاوب الملك فيصل بن عبد العزيز مع دعوة البابا في مسألة الانفتاح بين العالمين الإسلامي والمسيحي التي كرس لها الملك حياته، وقال فيها: «أثلج صدرنا ما تضمن من تجاوب مع شعور قداسة البابا في مجالي الانفتاح بين العالمين الإسلامي والمسيحي، وقد جاء هذا الانفتاح ليتم بلسان رائد العقائد والمبادئ السامية الحامل على عاتقه في هذا الشرق مهمة مكافحة التطرف، وصيانة الشعوب العربية من مناوئ الإلحاد».

وأكد المعوشي أن «الدعوة التي وجهتموها جلالتكم إلى التعاون مع كل مؤمن بالله ما كانت إلا لتزيدنا يقيناً بأن قيادتكم للأمة العربية تسير بها إلى عهد أفضل للأخوة والمحبة والسلام، وأن الروابط القائمة بين جلالتكم والبطريركية المارونية ستزداد توطداً وتوثقاً في مجالات العمل، لتأدية الواجب المشترك في الحفاظ على القيم الروحية والمقومات الإنسانية الشريفة».

- فترة الحرب اللبنانية

وخلال الحرب اللبنانية، برز دور القادة السعوديين في العمل على حماية لبنان، وتثبيت العيش المشترك فيه. ففي رسالة من البطريرك أنطونيوس خريش إلى الملك الراحل خالد بن عبد العزيز، شكره فيها على مبادرته في سبيل وقف إطلاق النار في لبنان، قائلاً: «وما كانت هذه المبادرة الكريمة بمستغربة، وهي تنم عن أصالة عربية إنسانية عرفتم بها، كما اشتهرت عن أسلافكم الطيبي الأثر. وقد قامت بينهم وبين لبنان، وعلى الأخص بينهم وبين هذه البطريركية، أوثق العلائق وأحسن روابط المودة. وبين أيدينا رسائل كريمة تبادلها سلفنا الكردينال المعوشي الطيب الذكر وسلفكم المغفور له الملك فيصل».

وفي السياق نفسه، شكر البطريرك نصر الله صفير الملك الراحل فهد بن عبد العزيز على جهوده الحثيثة التي يبذلها في أعمال ومتابعة اللجنة العربية العليا المعنية بالقضية اللبنانية، والتي تعبر في كثير من جوانبها عن أمنية اللبنانيين في استعادة سيادة وطنهم وأمنه وسلامه. وختمها قائلاً: «إنا فيما نأمل أنْ تواصل لجنتكم الموقرة جهودها لإخراج لبنان من جحيم المحنة، نسأل الله أنْ يكافئكم خيراً، ويطيل عمركم على عافية، ويبقيكم رائداً في الدفاع عن القضايا العادلة».

وفي رسالة من الأمير تركي بن طلال بن عبد العزيز إلى البطريرك الراحل نصر الله صفير، أكد أنّ «إخواننا اللبنانيين باختلاف طوائفهم كانوا -وما زالوا وسيظلون- في قلوبنا وعقولنا على مر الأزمان. وإذا كانت الحرب قد أفرزت شرذمة من شتى الأطراف شاذة في النوايا ضالة في الاتجاه، فقد تعلمنا أنْ نُحجمها في الإطار الذي وضعت نفسها فيه».

وأكد أنه «في كل الأزمات التي تعرضت لها أمتنا -وكما تعلمنا من التاريخ- لم يكن الأخوة المسيحيون العرب إلا عوناً وسنداً لإخوانهم المسلمين ضد كل ما يُصاب به الشرق من هموم وويلات، ابتداءً من الحروب الصليبية التي اتخذت الصليب حجة للانطلاق نحو خيرات الشرق، وصولاً لعملية زراعة هذا الجسم الغريب المُسمَّى إسرائيل في داخل أنسجة أمتنا العظيمة».

وشدد الأمير تركي على أنه على الرغم من أنه «قد وُجِدَت خلافات بين المسلمين والمسيحيين على مر الأزمان مؤججة باستغلال الحاقدين المنتفعين تحقيقاً لمآربهم، فإنها دائماً لم تخرُجْ عن خلافاتِ المصالح الشخصية، فلا يجب أن يُشيرَ أحد بوجود خلافٍ في الأهداف السامية للمسيحية والإسلام، بصفتها عقائد سامية تهدفُ إلى كل ما فيه خير للإنسانية، وإلى تخليص الروح من أدناس الأمور». وأضاف: «من يحاولُ أن يَغفِلَ ذلك -أو يتغافل- ويضعَ الأمر في إطاره الخاطئ، وهو أن الخلافات كانت صراعاً بين الإسلام والمسيحية، فإما أنه مغفلٌ لا يعي تاريخ الأمة المليء بالعبر، أو أنه يَضْمِرُ في نفسه نوايا ينبغي رفضها لعدم انسياقها مع حركة التاريخ، مُثمنين بذلك قول غبطتكم: من الواجب إحداث تقويم للاعوجاج الذي طرأ على المستوى الدولي لجهة المسؤول دون تصوير النزاع كأنه بين الإسلام والمسيحية».

ورد البطريرك صفير على رسالة الأمير تركي، مؤكداً في رده أن «الذين يقولون بصراع الأديان والحضارات، لا يتصورون -على ما يظهر- ما يُصيب البشرية من جرائه من ويلاتٍ ونكباتٍ، بحيث يصبح العيش الآمن مستحيلاً، وتنقلب الدنيا جحيماً مقيماً، لا سمح الله».

وأكد صفير: «إننا مقتنعون في لبنان بأن أتباع المسيحية والإسلام، منذ وجدت هاتان الديانتان، يعيشون في جو احترام متبادل، ما لم يأتِ من يزرع الفتنة في صفوفهم. وعلى كل، فإن التاريخ يدل على أن أيام الخلافات هي أقل بكثير من أيام الوفاق والتعاون والسلام بينهم».