"هذا إمامُ النَّصارى إن قتلْناهُ قَتَلنا كُلَّ النَّصارى". هذا ما قَالَهُ أحدُ العُلَماءِ المَشايِخِ في ١٠ تمّوز عام ١٨٦٠م، وهُوَ يُشيرُ إلى القِدِّيسِ يُوسُفَ الدِّمَشقيّ في أحَدِ الأروِقَةِ قُربَ الكاتِدرائِيَّةِ المَريَمِيَّةِ في دِمَشقَ، والمعروفِ بِمئذَنَةِ الشَّحم. فَهجَمَ عَليهِ المُسَلَّحونَ، وسفَكُوا دَمَهُ، وسحلُوا جثّتَهُ في الشَّوارِع.

تُشكِّلُ مَجازِرُ ١٨٦٠م حَقبةً ألِيمَةً في التّاريخِ، ولكن بِالرُّغمِ مِن مَرارَتِها وضَحايَاها تُشِعُّ في وَسطِها قَداسَةٌ، والقِدِّيسُ يوسُفُ أحدُ كواكِبِها.

في اليَومِ التَّاسِعِ من شَهرِ تَمّوزَ، اكتَظَّتِ المَريَمِيَّةُ بِالمَسيحيّينَ اللّاجِئِينَ إلَيها هَرَبًا مِن سَفكِ الدِّماء، وكانَ الوافِدُونَ من قُرىً لُبنانِيَّةٍ مِثلَ حاصبَيا وراشَيّا، وكانت هَذِهِ القُرى قد نالَت نَصيبَها مِنَ القَتلِ والذَّبحِ، وآخرُونَ مِن سُوريَّةَ نفسِها.

ولم يَشأ الخوري يُوسُفُ أن يَنفَصِلَ عن رَعِيَّتِهِ، فأمضَى اللّيلَ مَعَ المُؤمِنينَ في الكَنيسَةِ يُصَلِّي، إلى أن حَصَلتِ المَجزَرةُ في صَباحِ اليَومِ التَّالي، وأُحرِقَتِ المَريَمِيَّةُ وقُتِلَ مَن قُتِلَ فيها.

الشّيخُ كان مِنَ المُهاجِمِينَ، وكان قد جَرى نِقاشٌ بينَهُ وبينَ القِدِّيسِ الشَّهيدِ حَولَ الدِّينِ، خَرجَ مِنهُ الشَّيخُ مَهزُومًا، فضَمَرَ حِقدًا ضِدَّه.

كان القِدّيسُ كاهِنًا وَرِعًا، وقد أَعلَنَ المَجمَعُ الأنطاكِيُّ قَداسَتَهُ في البَلمَند عام ١٩٩٣م، مُحَدِّدًا يَومَ استِشهادِهِ تَذكارًا له في كُلِّ عَام.

مَعَ هذا القِدّيسِ نَطرَحُ ثلاثَةَ أسئِلَةٍ: هل يُوجَدُ قِدِّيسُونَ جُدُدٌ في الكَنيسَةِ الأُرثُوذُكسِيَّة؟ ما هِيَ مَعاييرُ إعلانِ القَداسَةِ في الكَنيسَةِ الأُرثُوذُكسيَّة؟ وكَيفَ يَتِمُّ الإعلانُ، ومَن يُعلِنُه؟ ولأنَّ لِكُلِّ شَخصٍ في هَذِهِ الدُّنيا فَرادَتُه، نُضيفُ سُؤالًا رابِعًا مُهمًّا جدًّا كَخَاتِمَةٍ، وهُوَ: ما هِيَ فَرادَةُ القِدّيسِ يُوسُفَ الدِّمَشقِيّ، وماذا نَتعلَّمُ مِنهُ؟.

بِالنِّسبَةِ للسُّؤالِ الأَوَّل:

نَعم بِكُلِّ تَأكيدٍ يُوجَدُ قِدّيسُونَ جُدُدٌ لأنَّ القَداسَةَ عَملُ الرُّوحِ القُدُسِ وحُضورُهُ الحَيُّ في نُفوسِ السَّاعِينَ إليه. وهُناكَ قِدِّيسونَ جُدُدٌ مِن جِنسيَّاتٍ مُختَلِفَةٍ، يُونانيّون، ورُوس ورُومانيّون وغيرُهم، مَعَ أنَّ القَداسَةَ تتخَطَّى كُلَّ جِنسِيَّةٍ وعِرقٍ وهُويَّةٍ أرضِيَّة، لأنَّنا كُلَّنا أبناءُ اللهِ بِالنِّعمَةِ والحَقّ.

والقِدّيسُ يُوسفُ الدِّمشقِيُّ الّذي هو مِن عائِلَةِ "الحَدّاد"، هو أَحدثُ قِدّيسٍ أنطاكِيّ، أعلَنَهُ المَجمَعُ الأنطاكِيُّ المُقَدَّسُ وطَبعًا لن يَكونَ الأخِيرَ. وهُناكَ أسماءُ آخَرِينَ، مِنهُم رَقدُوا ليسَ مِن زَمَنٍ بَعيدٍ، ونُصَلِّي بِحَرارَةٍ لِتُعلَنَ أسمَاؤُهُم إن شَاءَ الله.

وحَولَ السُّؤالِ الثّاني: مَعاييرُ القَداسَةِ هِيَ نفسُها المُتَّبَعَةُ مُنذُ القُرونِ الأُولى لِلمَسيحِيَّةِ وهي اثنان: أن يَكونَ القِدِّيسُ أو القِدِّيسَةُ ذا إيمانٍ مُستَقِيمٍ، أي لا هَرطَقَةَ فِيه، وهُوَ إيمَانُ الكَنيسَةِ الذي أعلَنَهُ الرَّبُّ يَسوعُ المَسيحُ لنا، ودَوَّنَهُ الرُّسُلُ الأطهَارُ وآباءُ الكَنيسَةِ، وثَبَتّتهُ المَجامِعُ المَسكُونِيَّةُ السَّبعَةُ، وهُو مُستَمِرٌّ بِالرُّوحِ القُدُسِ.

هذا مِن ناحِيَةٍ أُولى، ومِن نَاحِيَةٍ ثَانِية أن يَكونَ القِدِّيسُ أوِ القِدِّيسَةُ قد أَضحى إنجِيلًا حَيًّا في حَياتِه.

قد يبدُو لِلوَهلَةِ الأُولى أنَّ هذَين المِعيَارَين سَهلانِ أو مِنَ البَدِيهيَّات، ولَكِن في الحَقيقَةِ هُما لا يَتحقَّقانِ إلّا بِجِهادَاتٍ وصَلواتٍ وتَوبَةٍ وإفراغٍ للذَّاتِ، والامتِلاءِ مِنَ الرُّوحِ القُدُس.

وعادَةً ما يَسبِقُ الشَّعبُ، فيَعتَرِفُ بِالقِدِّيسِ أوِ القِدّيسَةِ، ويُنادِي بِسيرَتِهِ أو سيرَتِها، قبلَ أن تُعلِنَ الكنيسةُ ذلكَ رسميًّا.

أمَّا بِالنِّسبَةِ لِجَوابِ السُّؤالِ الثَّالِث:

كُلُّ بَطريركِيَّةٍ لَها مَجمَعُها المُقَدَّسُ، وهُوَ الّذي يُعلِنُ القِدِّيسينَ فِيها، بَعدَ التَّدقيقِ بِسِيرَتِهم.

وفَورَ إعلانِ قَداسَةِ شَخصٍ، يَحدَّدُ لَهُ يَومٌ في السَّنةِ لِيُقامَ تَذكارُهُ فِيه، وتُكتَبُ له خِدمَة ٌليتُورجِيَّةٌ تُصلَّى وتُرَتَّلُ في عِيدِه، كما تُكتَبُ لَهُ أيقُونَةٌ وتُنشَرُ سِيرتُهُ لِيغتَذِيَ مِنها المُؤمِنون.

وفي حالِ وُجِدَت رُفاتُهُ فتُحفَظُ كَذَخِيرَةٍ في الكَنِيسَةِ لِيَتَبَرَّكَ مِنها المُؤمِنون أيضًا.

وبَعدَ إعلانِ قَداسَتِهِ يُزَفُّ الخَبَرُ لِكُلِّ البَطرِيَركِيَّاتِ الأُخرى، لأنَّ هَذِهِ فَرحَةُ الكَنيسَةِ قَاطِبَة.

قد يتساءَلُ البَعضُ: "أينَ هِيَ مَكانَةُ العَجائِبِ في إعلانِ القَداسَة"؟ في الحَقيقَةِ إنّ اجتِراحَ القِدّيسينَ العَجائِبَ هو نِعمَةٌ قد يَهَبُها اللهُ لَهُم وقد يَحجُبُها عنهُم. وهُناكَ قِدِّيسُونَ كُثُر في الكَنيسَةِ مُنذُ البَدءِ، لم يَكُن للعَجائِبِ أيُّ دَورٍ في إعلانِ قَداسَتِهم. وهَذا ما كان مَعمُولًا بِهِ في الكَنيسَةِ مُنذُ بِدايَاتِها.

خِتامًا، يَبقى لَنا أن نَعرِفَ أن ما يُعَلِّمُنا إيَّاهُ القِدِّيسُ يُوسُفُ الدِّمَشقيّ قَيِّمٌ جِدًّا.

فقد جَمعَ بِشَخصِهِ العِلمَ الكَثيرَ والإيمَان الكَبيرَ بِتَوازُنٍ مُلفِت، مُدرِكًا أنَّ كُلَّ ما يَكتَسِبُهُ مِن عِلمٍ ومَعرِفَةٍ مَا هُوَ إلا عَطِيَّةٌ مِنَ اللهِ ولِخِدمَةِ الإيمَانِ المُستَقِيم.

ففي عام ١٨٤٠م أَعادَ تَنظِيمَ المَدرَسَةِ الآسِيَّة في دِمَشقَ، والّتي قد أَسَّسها البَطريركُ أَفتِيمُوس كَرمَة عام ١٦٣٥م في المَقَرِّ البَطريَركيّ بِدِمَشق.

عَلَّمَ القِدّيسُ فِيها، وقَد ذَاعَ صِيتُها كَصَرحٍ تَعلِيميّ ذي مُستَوىً عَالٍ جِدًّا، وقد تَخَرَّجَ مِنها وعلى يَدِهِ بَطارِكَةٌ وأَساقِفَةٌ وكَهَنَة.

عَلَّمَ الكِتابَ المُقَدَّسَ بَعدَ أن تَرجَمَهُ عَيشًا إن في عَائِلَتِهِ الصَّغيرَةِ مَعَ زَوجَتِهِ وأَولادِه، وإن في رَعِيَّتِهِ الكَبيرَةِ، إذ كانَ صَديقَ الفُقَراءِ وخَادِمَ المَرضى ومُعزّي النُّفُوس.

كَذَلِكَ عِظاتُهُ مَلأتْ سَماءَ دِمَشقَ، وتَردَّدت لِسِنينَ طِوال، وبَلَغَت مِنَ العُمقِ والبَلاغَةِ دَرَجاتٍ عُليا، فذَكَّرَتِ النَّاسَ بِالقِدّيسِ يُوحنَّا الذَّهبيّ الفَم لِعُمقِها اللّاهُوتيّ. كَما كانَ مُدَافِعًا قَويًّا عَنِ الإيمَانِ الأُرثُوذُكسيّ فِي وَجهِ الهَرطَقاتِ والبِدَع.

وقَد عُرِضَت عَلَيهِ فُرَصٌ مُغرِيَةٌ لِيَنتَقِلَ إلى أَبرَشِيَّاتٍ أُخرَى، فأبى أن يَترُكَ رَعِيَّتَهُ وعِيشَتَهُ المُتَواضِعَة، معتبرًا أن مَن دعاه للخدمة يكفيه حيث هو، والمقصود بذلك طبعًا الله.

ويَبقى القِدِّيسُ يُوسُفُ الدِّمَشقِيّ مِثالًا رَائِعًا لِكُلِّ كاهِنٍ لِخِدمَةِ مَذبَحِ الرَّبِّ ومَذبَحِ الإنسَان.

فبِشفاعَتِهِ يا رَبُّ خَلِّصنا وارحَمنَا، آمين.