قد تكون تداعيات قمة بايدن- بوتين (قمة ب-ب) في 16 ايار/ مايو أوسع طيفاً مما قد يتوقعه العديد من المحللين السياسيين، وخاصة هنا في لبنان. اذ تزامنت قمة ب-ب، تقريباً، مع الإعلان عن زيارة الوفد الإقتصادي الروسي إلى بيروت في 18 من الشهر نفسه. حيث أعلنت خلالها نتائج الدراسة التي أجراها الوفد الروسي حول إعادة بناء مصفاتي البترول في كلّ من الزهراني وطرابلس، وإعادة تأهيل مرفأ الأخيرة. بغض النظر عن المشاريع التي أبدت الشركات النية التعامل معها، إن تمت الموافقة عليها، إلا أن الأمر يبشر بخير يمكن التعويل عليه اذا لحظ لبنان تغيير هام في السياسات الإقتصادية التي ينتهجها وبدأ بالتوجه شرقاً.

بالطبع لن يكون توجه لبنان نحو الشرق "إن حدث" حدي وقطعي، بل هو مبدئي وجزئي. وهذا أمر هام بحد ذاته، لأنه سيحدث طفرة نوعية في مجالات احتكار استيراد الطاقة فيه، والذي سينعكس بشكل مباشر على واقع انتاج الكهرباء في لبنان. حيث أن تغيير واقع انتاج الكهرباء ومنتجات البترول في لبنان، على المستوى المنظور وليس البعيد، سيتمخض عنه تغيير في تأهيل البنى التحتية في لبنان، وسينعكس ايجاباً في مجالات عدة، حتى تحديد أسعار السلع الغذائية التي تشهد غلاءاً فاحشاً، والذي أحد أهم اسباب ارتفاعها، هو ارتفاع تكاليف النقل بسبب ارتفاع اسعار المحروقات في الفترة الماضية، والتي باتت وللأسف تلامس سقفاً عالياً جداً فوق قدرة اللبناني الشرائية. والدليل على ذلك، أن أسعار الخضار والفواكه، على سبيل المثال، والتي لا علاقة لها بالدعم الحكومي، شهدت ارتفاعاً خلال فترة انخفاض سعر الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، ولكنه بقي ضمن الإطار المعقول، غير أن نفاذ المحرقات وارتفاع اسعارها، طاول بشكل مباشر وملفت أسعار الخضار والفواكه الموسمية.

إضافة إلى ما سبق مما هو غير منظور، إن بداية دخول الشركات الروسية، بضمانة الحكومة اللبنانية سيحقق نتائج يهمش الإعلام اللبناني متابعتها، وللأسف، ألّا وهي فتح المجال أمام خلق فرص عمل جديدة. اذ ستصل نسبة البطالة في نهاية العام 2021 إلى 41.4% في لبنان. مع هذه المشاريع الإستثمارية ستأتي فرص عمل جديدة ستطال جميع الفئات المجتمعية ابتداءً من عمال النقل والتحميل والتنظيفات، إلى خريجي الجامعات من إداريين ومهندسين على حد سواء.

بالطبع الشركات التي جاءت إلى لبنان، وإن دعمت بشكل مباشر من قبل الدولة الروسية، إلّا أنّها شركات خاصة، وبالتالي لهذا الأمر حسناته، فهي اعتادت التعامل مع الشركات العالمية. وقد سبق للشركات الروسية التنسيق مع شركات فرنسية وإيطاليا في لبنان وخاصة من خلال العقود التي أبرمت من أجل استخراج الغاز في الحقول اللبنانية وفي مجالات أخرى خارج لبنان. ومن ثم عبر التسيق المتجلي في الحيثيات التي تتقاسمها الشركات الأوروبية في إعادة بناء مرفأ بيروت. فالشركات الألمانية ستعيد بناء أحواض مراسي السفن، بينما الفرنسية ستعيد بناء الحاويات، أو المخازن، في حين أن الشركات الروسية المساهمة، ستعيد بناء إهراءات القمح.

وأما الأمر ذو العلاقة الوثيقة بمستقبل لبنان ومستقبل المشروع الصيني، طريق الحرير الجديد، أو طريق واحد حزام واحد، قد تفسح الشركات الروسية المجال للشركات الصينية للعمل مباشرة على مصفاة طرابلس وإعادة تأهيل مرفأها وتوسيعه، وقد تقوم هي بالعمل على الأرض. ولكن، إذا ما تم هذا الإنجاز فهو سيعيد لمرفأ طرابلس تاريخه المجيد، اذا كان المرفأ من أهم مراكز التبادل والنشاط التجاري العالمي. وثانياً، سينتشل المشروع طرابلس ومحيطها من الحالة الإقتصادية المتدنية الحالية، إلى وضع اقتصادي مزدهر، وهو وضع لن تنتظر طرابلس طويلاً لقراءة النتائج المتعلقة به حتى يتم إعادة تأهيل المصفاة أو توسيع المرفأ، بل ستبدأ قراءة النتائج على الصعيد الإقتصادي والإجتماعي في المنطقة ما أن توضع أساسات العمل على خط مشروع الإستثمار الصيني. وهذا ما سيؤسس لإنتصار صيني- روسي آخر في عالم الإقتصاد والتجارة، إن لم نقل في السياسة أيضاً. كما أن تفعيل مرفأ طرابلس، سيشكل دعماً لكل من روسيا والصين في المياه الدافئة.

فَسحُ مجال العمل للصينيين، في شكله ومضمونه سياتي ضمن اتفاقيات دولية وعالمية، دولية بمعنى ما بين الصين وروسيا من جهة ولبنان من جهة أخرى، وعالمية بمعنى الموافقة أو التبريكات الأميركية وبالتالي الأوروبية. سيغير الكثير في واقع لبنان الحديث، وفي واقع سيطرة الإحتكار اللبناني المرتبط "وهماً" بالقرار الدولي. صحيح أن الأميركيين مايزالون يناورون في اماكن عدة، ويبدو ذلك جلياً في عشوائية القرارات التي يتخذونها وأنهم مايزالون يقعون تحت وطئة الإرباك الذي حصل معهم بعد عملية "سيف القدس"، اذ ليس لديهم خطة واضحة اتجاه السياسات في المنطقة، سوى دعم اسرائيل.

اذا صح ما سبق، وجاءت خواتيم المباحثات مع الشركات الروسية بأن تصل إلى اتفاق الضمانة والعمل مع الدولة اللبنانية من أجل تنفيذ المشاريع التي عرضت لها مؤخراً في مؤتمرها الصحفي. فهذا معناه مجموعة من الأمور الهامة على المستوى الدولي والإقليمي، في أولها أن أحد المندرجات التي توصل إليها لقاء بايدن بوتين، هو تفعيل الإستقرار في المنطقة، لأنه بحسب مصدر مطلع، وما شهدناه من غضب ديفيد هيل حول الـ 10 مليار دولار أميركي لضرب حزب الله، فإن الأميركي ينوي فعلياً ضرب الإستقرار الداخلي في لبنان وتأجيج حرب أهلية، قبل الإستقرار النهائي في سوريا، وبذلك يصبح هذا المشروع وراءنا في حين تم توزيع الأدوار في لبنان بما يتعلق بضمان الإستقرار وبدء الإستثمارات فيه. فالروسي والصين بحاجة للإستثمار في استقرار لبنان، تأميناً لإستثماراته في عملية إعادة بناء سوريا.

وثانياً، ضمان الدولة، الذي يطلبه الروسي له علاقة مباشرة بضعف الثقة في المعاملات المصرفية في البنوك اللبنانية، التي فقدت صلاحياتها كضامن للإستثمارات بعد الدور الذي لعبته منذ 17 تشرين الثاني 2019 وحتى اليوم. واثبتت بالتالي غباء الخيارات الإقتصادية والإستثمارية في هندساتها المالية التي قامت على مبدأ الربى منذ تسعينات القرن الماضي. فضمانة الدولة ترفع من قيمة وأهمية الدولة اللبنانية ككيان قائم في المنطقة، وتمكن الشركات الروسية من الإلتفاف على العقوبات الأميركية، كما يعد ضمانة للأميركي بعدم دخول إيران والصين مباشرة على خط التجارة مع لبنان. وهذا يدفع نحو لبنان جديد قد يكون ما أراد قوله ماكرون في تصريحاته بعد انفجار مرفأ بيروت في آب الماضي، حين قال أن دور لبنان في المنطقة كما نعرفه يجب أن يتغير. فهل هذا تحضير يكمن وراءه سر ما سرب حول عودة لبنان تحت الوصاية الدولية أو الإنتداب الفرنسي، توجساً من توجهه شرقاً.

النقطة الأخيرة، هناك حاجة روسيا- صينية للتوسع على شواطئ البحر المتوسط، وإذا أخذنا تاريخ الاتحادات الدولية في العالم، ومنها الإتحاد الأوروبي، أودول التعاون الخليجي وغيرها، فقد بدأت كتحالفات اقتصادية قبل أن تكون تحالفات سياسية. ولذلك في هذه المرحلة التاريخية ومن أجل العمل على النهوض الإقتصادي للبنان، الذي هو بحاجة للمزيد من الإستثمارات بدلاً من الوقوع تحت عبء المزيد من الديون. وأن يتحول ليشكل مع سوريا اتحاداً أو تكتلا اقتصادياً هاماً على شاطئ المتوسط، مع دولتين عظمتين، سيخرجه حتماً من دوامة العبث الغربي ويوسع عبره تحالفاته وآفاقه ليكون ملتقاً اقتصادياً وثقافياً حقيقياً ما بين الشرق والغرب.