النُّورُ حياةٌ وانعِدامُ النُّورِ ظَلامٌ ومَوت. هذا ما قَالَهُ لنا الرَّبُّ واختَبَرهُ المُؤمِنُ الحقيقي.

مَن يَقرأْ إنجيلَ يُوحنّا بِتَمَعُّنٍ يَدخُلْ في "النُّور" مَعَ "أل" التَّعريف، أي النُّور الإلهيّ الّذي هو يَسوع، ويَسمَعُ بِالتَّالي الرَّبَّ يَقُولُ له كَما قالَ للجَمع: "النُّورُ مَعَكُمْ زَمَانًا قَلِيلًا بَعْدُ، فَسِيرُوا مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ لِئَلاَّ يُدْرِكَكُمُ الظَّلاَمُ".

ويُتابِعُ المُخلِّصُ كَلامَهُ مُحذِّرًا ايّانا مِنَ التَّيَهان: "وَالَّذِي يَسِيرُ فِي الظَّلاَمِ لاَ يَعْلَمُ إِلَى أَيْنَ يَذْهَبُ"، وبَعدَها مُباشَرَةً يَضَعُ الرَّبُّ نُصبَ أعيُنِنا مَقصَدَ وُجودِنا: "مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ"(يوحنا ٣٥:١٢-٣٦).

إنطِلاقًا مِن هَذِهِ الدَّعوَةِ الإلَهِيَّةِ لنا تَقرأُ الكَنيسةُ عَلينا في هذا الأَحَدِ، والّذي هُوَ أَحدُ آباءِ المَجمَعِ المَسكونيّ الرَّابِع، مَقطَعًا مِن إنجِيلِ مَتّى يُخاطِبُ فيهِ المَسيحُ الجُموعَ قائِلًا: "أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ"(متى ١٤:٥).

يا لَهَذِهِ العَظَمَةِ، ويا لَها أيضًا مِن مَسؤولِيَّةٍ كُبرى مُلقَاةٍ على أكتَافِنا، إذ يَضعُنا الرَّبُّ أمامَ دَينُونَةٍ كُبرى:

"فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (متى ١٦:٥). ويُقابِلُ هَذِهِ الآيَةَ آيةٌ أُخرى، تَجعَلُ مِن كُلِّ ذي حِسٍّ أن يَرتَجِفَ ويُراجِعَ كُلَّ مَسيرَتِه، وهِي: "لأَنَّ اسْمَ اللهِ يُجَدَّفُ عَلَيْهِ بِسَبَبِكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ"(رومية ٢٤:٢).

يَقولُ القِدّيسُ يُوحنّا كرُونشتات (١٨٢٩-١٩٠٨م)، الّذي نُعَيِّدُ لَه في العِشرِينَ مِن كَانُونَ الأوَّلِ قَبلَ خَمسَةِ أيَّامٍ مِن عِيدِ المِيلادِ المَجيد، في يَومِيَّاتِه "حياتي في المَسيحMa vie en Christ"، يقول: "على كُلِّ إنسانٍ ألّا يَختُمَ نَهارَهُ قَبلَ مُراجَعَةِ أفعالِهِ، وعَليهِ أن يَكشِفَ نَوايَاهُ أمامَ الرَّبِّ القُدُّوسِ، لِيَعِيَ إذا كان سَائِرًا في نُورِ الإنجِيلِ أو تَاهَ في ظَلامِ الخَطيئَةِ، عِندها فَقط يَستَطِيعُ أن يُقَوِّمَ حياتَهُ لِتَكونَ على الطَّريقِ الصَّحيح".

هَذه المُكاشَفَةُ تَتطابَقُ مَعَ دَعوةِ الرَّبِّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنّا فَنبدأُ مَعها نَهارًا جَديدًا بِالرَّب.

ألَيسَ في كُلِّ يَومٍ شُروقٌ للشَّمس؟ ألا يُحسَبُ اليَومُ يَومًا جَديدًا معَ اضمِحلالِ الظَّلامِ وبُزوغِ النُّور؟ بلى بكُلِّ تأكيد، وكذلك هي حياتُنا.

في الماضي البِعيدِ كان Hypocrate، الفِيزيائي اليُونانيّ (٤٨٠-٣٧٠ ق م)، والّذي يُعتَبرُ أبَ الطِّبّ، يَحُثُّ النَّاسَ على القِيامِ بِحمّاماتِ شَمسٍ، لِما في نُورِ الشَّمسِ مِن فَائِدَةٍ لِلجَسَد، مِن جِهة، ومُحارَبَةٍ للاكتِئابِ والقَلقِ والأرَقِ مِن جِهَةٍ أُخرى.

كما أَثبَتَ العِلمُ أنَّ هذا النُّورَ يُعيدُ ضَبطَ "ساعاتِ" هُورموناتِنا في أجسادِنا، فَكيفَ بِالأَحرى إذًا نُورُ الرَّبِّ الشَّافي المُحيي؟.

ولم يَقتَصِرِ الأمرُ على عَالَمِ الفِيزياءِ فَحَسب، بَل كانَ للنُّورِ حُضورٌ فَنيٌّ رَائِعٌ، مَثَلًا أعمالُ Fra Angelico، في عَصرِ النَّهضةِ (١٤٣٠م) الّذي تَميّزَ فَنُّهُ بِالنُّورِ المُشِعّ إن فِي لَوحَةِ البِشارِةِ أو الصَّلبِ وغَيرِهِما، فأتى عمله ليشكّل مدرسة نورانيّة فنيّة، وأيضًا احتَلَّ النُّورُ مَكانًا عَاليًا في قَصائِدِ الشُّعراءِ الكِبارِ، أمثَالِ المُتَصَوِّفِ "جلال الدّين الرّومي" (١٢٠٧-١٢٧٣م)، الّذي كَتَبَ: "ما ضَرَّكَ لو أَطفَأَ هذا العَالَمُ أضواءَهُ كُلَّها في وجهِكَ، مَا دامَ النُّورُ في قَلبِكَ مُتوَهِّجًا". وهَذِهِ مُناشَدَةٌ لِلمَسيحِ حتّى لو لَم يُدرِكْ شاعرُنا ذَلِك، إذِ الرُّوحُ تَبحَثُ عن خَالِقِها لِتستَريحَ وتَجِدَ السَّلامَ المَنشُودَ فيه.

كَذلِكَ للنُّورِ الحَيِّزُ الكَبيرُ في الفَنّ المِعماريّ، كيف لا، ومَن يَدخُلُ قَصرَ "فرساي" مَثلًا ينبَهِرُ مِنِ انعِكاسِ الضَّوءِ على المَرايا الكَبِيرَةِ فتأخُذُنا المُخَيِّلَةُ لِنَخالَ أنفُسَنا نَسمَعُ خُطى مَلِكِ مُلوكِ فَرنسا، مَلِكِ الفَنِّ "لويس الرّابِعَ عَشَر"، والّذي كانَ لَقبُهُ مَلِكَ الشَّمسِ، نَخالُه يَسيرُ في أرجاءِ قَصرِهِ البَهيّ بلباسه الملوكيّ، وهُوَ يَرقُصُ ويَتمايلُ ويتنّهد وَسطَ شُعاعِ النُّورِ الدَّاخِلِ منَ الزُّجاجِ الشَّاهِقِ والبَرَّاق.

مَهلًا، هَذا جَميلٌ حَقًّا، ولَكِن كَم هُوَ أَجملُ عِندمَا نَسمَعُ صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ يَسيرُ نَحونا لِيُدخِلَنا مَلكُوتَهُ، ولا نَختبِئُ مِنْ وَجْهِ الإِلهِ مِن جَرَّاءِ عُريِنا كمَا فَعَلَ جَدَّينا الأوَّلَين، آدَمُ وحَوَّاءُ قَديمًا.

في الخِتامِ، الآباءُ القِدِّيسونَ الّذينَ أقرُّوا في المَجمَعِ المَسكُونيّ الرَّابِعِ الّذي انعَقَدَ في خَلقيدونيةَ في العام ٤٥١م، بِأَنَّ للرَّبِّ يَسوعَ المَسيحِ، الإلهِ المُتَجسِّدِ، طَبيعتَين كَامِلَتَين إلهِيَّةٍ وبَشَريَّة، ومَشيئتَين كامِلَتَين إلهِيَّةٍ وبَشرِيَّة، دُونَ أن تُلغي الوَاحِدَةُ الأُخرى، عَاشُوا هذا الإيمَانَ المُستَقيمَ وجَسَّدوهُ في حَياتِهم، مُحقِّقينَ بِذَلكَ قَولَ مَن سَبَقَهُم مِنَ القِدِّيسينَ: "اللهُ تَجسَّدَ لِيَقتَبِلَ الإنسانُ الإلَهِيَّات"، ويَرتَفِعَ، وهذا مَعناهُ أن يُضيءَ نُورُنا للنَّاسِ، أي أن نُصبِحَ مَسكِنًا لِلقُدُّوسِ فَيُشِعَّ عِندها نُورُهُ فينا، ونُمَجِّدَهُ ويُمَجِّدَ كُلُّ مَن يَلتَقِينا "أبانا الّذي في السَّماوات". إلى الرَّبِّ نَطلُب.