أخيرًا، فعلها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، فقدّم "اعتذاره" عن تشكيل الحكومة، بعدما سُدّت السّبُل في وجهه، ووقع "الطلاق النهائي" بينه وبين رئيس الجمهورية ميشال عون، ومن خلفه رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، اللذين اتهمهما بإجهاض كلّ المبادرات وإفشال كلّ الوساطات.

لكنّ "اعتذار" الحريري جاء متأخِّرًا، وفق ما يرى كثيرون، فهو كلّف البلاد تسعة أشهر من المماطلة والتسويف، وسرّع "الانهيار" الشامل، وضاعف سعر الدولار، ومنع الشروع في خطوات "الإنقاذ"، التي كانت المبادرة الفرنسية قد حدّدتها بوضوح، وقوامها تشكيل الحكومة، التي تتصدّى لورشة الإصلاحات التي بقيت "حبرًا على ورق".

ولعلّ ما يزيد الطين بلّة أنّ هذا "الاعتذار" جاء دون "خريطة طريق" واضحة لما بعده، ما يفتح أبواب "الفوضى والمجهول" أمام كلّ الاحتمالات، وهو ما تجلّى في "الترجمة الأولى" التي انقسمت إلى شقّين، أولهما في السوق السوداء، حيث سرّع سعر الدولار "تحليقه الجنونيّ" لحظة إعلان الحريري موقفه، مسجّلاً هبوطًا قياسيًا جديدًا للعملة الوطنيّة.

وتمثّل الشقّ الثاني بالتوتّرات الميدانيّة التي شهدتها العديد من المناطق، لا سيما تلك المحسوبة على تيار "المستقبل"، حيث نزل أنصار الحريري احتجاجًا على اعتذاره، فقطعوا بعض الطرقات، ولم يخلُ الأمر من بعض المواجهات والمشاحنات مع الجيش اللبناني، الذي "استنفر" أفراده، على وقع "التحذيرات" من طابور خامس يحرّض على "الفوضى".

أما في السياسة، فتبدو الصورة "ضبابيّة" بالمُطلَق، رغم الحديث المكثَّف في الأيام القليلة الماضية عن "سيناريوهات" ما بعد الاعتذار، ومحاولة "تفنيدها"، إلا أنّ أيًا من هذه السيناريوهات لا يبدو، حتى اللحظة، واقعيًا، لا سيّما أنّ الحريري لم يرفق خطوته باتفاق على "سلّة متكاملة" كان رئيس مجلس النواب نبيه بري يدفع نحوها، ولا حتّى على "بديل" له.

وفي حين يُتوقَّع أن يؤجّل رئيس الجمهورية ميشال عون الدعوة إلى استشارات نيابية ملزمة ريثما يتمّ الاتفاق على هذا "البديل"، في ظلّ حذر رئاسيّ رفيع المستوى من تكرار تجربة تسمية الحريري، الذي جاء من دون مباركة وموافقة "العهد"، تكمن المشكلة مرّة أخرى في اختلاف وجهات النظر حول طريقة التسمية، فضلاً عن "برنامج" رئيس الحكومة العتيد.

فبالنسبة إلى "الثنائيّ الشيعيّ" مثلاً، والذي كان خلف التمسّك بالحريري، وهو ما أعطاه "فائض قوة" وفق الرأي "العونيّ"، طيلة فترة التكليف، لا يزال الموقف على حاله، وطالما أنّ الحريري انسحب من تلقاء ذاته، لا بدّ من الاتفاق على "بديل" يسمّيه هو، أو يوافق عليه، أو بالحدّ الأدنى، لا يبدي "ممانعة" له بالمُطلَق، وهو ما يتطلب الابتعاد عن الوجوه "الاستفزازيّة".

ولعلّ في هذا الموقف رسالة "مضمرة" إلى "التيار الوطني الحر" الذي تعمّد في الفترة الأخيرة رمي بعض الأسماء إلى الواجهة، ومعظمها يصبّ في خانة "المواجهة المباشرة" مع الحريري، علمًا أنّ المحسوبين على "التيار" يرفضون فكرة تسمية الحريري لوكيل ينوب عنه، ويدفعون نحو رئيس حكومة جديد، ولو من خارج الطبقة السياسية، شرط أن ينفّذ "أجندة" العهد.

وبين رأي "الثنائيّ" و"العونيّين"، يبدو أنّ الحريري "حسم موقفه"، فهو قال في مقابلته التلفزيونية الأخيرة بعيد اعتذاره، إنّه لن يسمّي أحدًا في الاستشارات النيابية المقبلة، ولو ترك المجال للأخذ والردّ، برفض استباق قرار كتلة "المستقبل" التي ستجتمع في الوقت المناسب وتدلي بدلوها، وهو ما يوحي أنّ الحريري يرفض سلفًا أيّ أفكار لجرّه نحو التسمية أو ما شابه.

وفي السياق، ثمّة من يخشى أن يكون الحريري باعتذاره، قد اختار صرف النظر عن كلّ المسار السياسيّ، وإطلاق معركته الانتخابيّة قبل أوانها، وهو ما قد يعمّق الأزمة السياسيّة في البلاد أكثر، لأنّ ما يصلح في زمن "الانتخابات"، لا يمكن أن يستقيم في زمن "الانهيار"، في ظلّ سباق محموم اليوم على ما يبدو بين "الاستحقاقين" الجوهريَّين.

ولعلّ المواقف التي أطلقها الحريري في حديثه التلفزيوني تعزّز، بشكل أو بآخر، هذا المنحى، حيث كان لافتًا مثلاً أنّ هجومه لم يقتصر على "العهد"، مثلما فعل طيلة الأشهر التسعة المنصرمة، وإنما شمل أيضًا "حزب الله"، بعد "شهر عسل" بين الجانبين، إن جاز التعبير، وهو ما فُسّر في بعض الأوساط على أنّه "الخيار الانتخابي الطبيعي" للحريري.

وفي النتيجة، يبدو أنّ حكومة تصريف الأعمال نالت "تفويضًا جديدًا" بحكم المستجدّات الأخيرة، لتمديد "فترة حكمها"، فترة يخشى البعض أن تدوم حتى موعد الانتخابات، وأن تكون هي عمليًا من ستديرها، في ظلّ غياب التوافق حتّى على فكرة "حكومة الانتخابات" التي يطرحها البعض باعتبار أنّها قد تكون "البديل" المتوافر الوحيد.

وبين هذا وذاك، لا شكّ أنّ البلاد تجد نفسها مرّة أخرى على "كفّ عفريت"، عفريت قد ينطبق، من حيث الوصف، على الكثير من أركان الطبقة السياسية، التي لا تزال رغم كلّ مشاهد الانهيار، تبحث عن "مجد ضائع" من هنا، و"حصّة في قالب الحلوى" من هناك، دونما أيّ اكتراث بواقع الناس الذين ما عادوا قادرين على الصبر!.