ماذا يجري بين رئيس تيار «المستقبل» «المعتذر» سعد الحريري وبعض المسيحيين؟ وما الذي كشفته تجربته المريرة كرئيس مكلّف أخفق على امتداد نحو 9 أشهر في كسب ثقة هذا البعض؟

نجح عدد من القوى المسيحية في إرساء ما يشبه «توازن الردع» مع الحريري، من دون أن يكون هناك تنسيق مباشر بينها او إدارة مشتركة للمواجهة مع رئيس «المستقبل».

صحيح انّ اعتذار الحريري يعود إلى اسباب عدة ومركبة، بعضها خارجي وبعضها الآخر داخلي، لكن الصحيح أيضاً انّ العامل المسيحي كان متقدّماً ومؤثراً ضمن مروحة الاعتبارات المحلية التي حالت دون تمكّن الحريري من التشكيل، إذ لم يكن سهلاً ان يؤلف حكومة من غير غطاء مسيحي «سميك»، وهو الأمر الذي ظلّ مفتقراً اليه حتى اللحظات الأخيرة التي سبقت الإعلان عن اعتذاره.

وهكذا، يكون الحريري قد جمع باسيل وجعجع ضدّه في الملف الحكومي، ولو انّ تلاقيهما تحت هذا السقف كان موضعياً و»عابراً للسبيل»، بحيث انّه لم يتعدّ حدود رفض كل منهما التجاوب مع محاولاته لاستمالة أحدهما خلال مرحلتي التكليف والتأليف، إضافة إلى أنّ رئيس حزب «الكتائب» سامي الجميل حسم خياره باكراً بمقاطعة كل رموز السلطة ومن بينها الحريري، الذي وجد نفسه فجأة في مواجهة جزء واسع من مكوّن اساسي، لا يستقيم الحكم والتوازن من دونه، عملاً بقواعد الدستور والأعراف السياسية.

سعى الحريري جاهداً الى استجرار طاقة الدعم المسيحي من احد معملي الإنتاج في ميرنا الشالوحي ومعراب، الّا انّ محاولاته أخفقت، والتقت القوتان المسيحيتان المتنافستان والمتنازعتان على الامتناع عن تغطية حكومته المفترضة، كلٌ لأسبابه واعتباراته. فباسيل اكتفى بعد وساطة «الخليلين» بالموافقة على إعطاء الحكومة ثقة متواضعة ورمزية، بدت بالنسبة إلى الحريري مهينة، لا تسمن ولا تغني من جوع. وإذا كان الحريري قد تقبّل تكليفه من دون تأييد «التيار الوطني الحر»، على أمل التعويض عند التشكيل، فإنّه لم يهضم «التصدّق» عليه بفتات الاصوات البرتقالية الخالية من الدسم السياسي، وهو الذي وافق على منح رئيس الجمهورية 8 حقائب تستحق، في رأيه، ثقة كاملة.

اما جعجع فلم يتجاوب مع مسعى الحريري لإقناعه بالمشاركة في الحكومة والحصول على جزء من الحصّة الوزارية المخصّصة للمسيحيين، الأمر الذي كان من شأنه، لو حصل، ان يحرّر الرئيس المكلّف آنذاك من تحكّم عون وباسيل بإدارة التفاوض على هذه الحصة.

لقد شعر الحريري بأنّ جعجع خيّب امله مرة أخرى وتخلّى عنه لدوافع شعبوية، بعدما كان قد خذله من قبل عند استقالة وزرائه من الحكومة بنحو مباغت بعد انتفاضة 17 تشرين 2019. وعلى كلٍ، لم يتأخّر رئيس «المستقبل» في ردّ الصاع صاعين خلال مقابلته الأخيرة، معلناً منذ الآن عن انّ جعجع ليس مرشحه لرئاسة الجمهورية، في موقف ينطوي على تصفية حسابات بمفعول رجعي.

وبناءً عليه، يكون كل من باسيل وجعجع قد اوصل على طريقته رسالة إلى الحريري، فحواها انّه لا يستطيع أن يشكّل حكومة من غير أن يكون متفاهماً مع الكتلتين النيابيتين الأكبر في البيئة المسيحية او مع إحداهما. هي رسالة اختلط فيها السياسي بالميثاقي، وأعادت ترسيم حدود التوازنات الداخلية وخط الاستواء الطائفي.

لقد قالها «التيار الوطني الحر» وحزب «القوات اللبنانية» بصراحة الى الحريري: «من دوننا لا يمكنك تشكيل الحكومة، وتفاهماتك الإسلامية لا تعوّضك عنا حتى لو كنا منقسمين».

لكن ذلك لا يعني انّ «التيار» و«القوات» سيعيدان الاعتبار مجدّداً الى «اتفاق معراب» الذي لم يعد له اي محل في الإعراب، وانتهت مدة صلاحيته منذ فترة طويلة. انّه مجرد تقاطع ظرفي عند الخصومة ضدّ الحريري، والخصومة المشتركة مع الآخر لا تفضي بالضرورة الى اتفاق داخل المجتمع المسيحي، حيث الخلاف على الخيارات الاستراتيجية والمصالح التكتيكية يفرّق بين باسيل وجعجع.

وقد اتى الفتور المتزايد بين البطريرك الماروني بشارة الراعي ورئيس «المستقبل» ليفاقم مشكلة الحريري مع الشريك المسيحي المفترض. هذا الفتور بدأ مع الافتراق التدريجي بينهما في مقاربة ملف تشكيل الحكومة قبل اعتذار الحريري، ثم اتسع مع اعلان الراعي امس الاول عن الحاجة إلى رئيس مكلّف يكون على قدر التحدّيات، ما استفز الحريري الذي أحس بأنّ هذه الاشارة تنطوي على «لطشة» له، فقرّر التصدّي لموقف البطريرك عبر تصريح أدلى به المسؤول عن موقع «مستقبل ويب» جورج بكاسيني، وهذه من المرات النادرة التي يُسجّل فيها ردّ حاد وعلني من «بيت الوسط» على بكركي.