مع التركيز العلمي والعمق الفكري السياسي والاستراتيجي فضلاً عن البراعة في مقاربة المصطلح لتصويب استعماله وكشف الخبث المعادي في التحريف والتأويل، وجّه الرئيس الأسد في خطاب القسم الذي بدأ به ولايته الرئاسية الرابعة التي تمتدّ حتى العام 2028 جملة من الرسائل شكلت مع مسائل أخرى تشريحاً لما مضى، خاصة في السنوات العشر الأخيرة، سنوات الحرب الكونيّة على سورية، وإضاءة على ما هو قائم من واقع فيه الكثير من الأمل والإرادة لمواجهة العوائق والصعوبات وتخطيط لما يجب فعله في المستقبل ولما يراه في مصلحة سورية وجوداً وكياناً وانتماءات ومبادئ وقيَماً.

وجّه الرئيس الأسد رسائله إلى السوريين والعالم، الصديق والعدو والمحتلّ، بشكل قاطع وموضوعي لا مبالغة فيه ولا ممالأة، رسائل مترافقة مع التزام أكيد قطعه على مسمع مَن احتشد في قصر الشعب في دمشق من ممثلين لشرائح الشعب السوري كلها إضافة لأعضاء مجلس الشعب الذين يشترط الدستور أن يتمّ القسم أمامهم وعلى مسمعهم، فحمل خطاب –القسم من المواضيع المتكاملة والرسائل المباشرة أو غير المباشرة ما فرض على كلّ معني بالشأن السوري – صديقاً كان أم عدواً – متابعته والتوقف عنده واذا كان المقام هنا يضيق عن تناول كلّ ما جاء في الخطاب، فإننا نحصر البحث في بعض الرسائل الاستراتيجية القومية والوطنية والدولية التي تضمّنها الخطاب وعلى الوجه التالي:

1 ـ الرسالة القوميّة: أكد الرئيس الأسد على مسألة الانتماء القومي العربي بشكل جاء كردّ مباشر على أحد أهداف العدوان على سورية وعلى المنطقة كلها، هدف تضمّن التحلل القومي والانكفاء على الذات وإطلاق شعار «أنا أولاً» دون أن يكون هناك مَن هو ثانياً، ورفض بذلك مقولة «النأي بالنفس» التي ابتدعها لبنانيّون ليشكلوا وسيلة من وسائل العدو لحصار سورية. وبهذا شكل التأكيد على الانتماء القومي والتمسك به جواباً واضحاً لأعداء سورية وللعرب مضمونه أنً حرب السنوات العشر عجزت عن اقتلاع سورية من عروبتها وعجزت عن انقلاب سورية على عروبتها أو إخراج العروبة من سورية، وكان هاماً جداً التمييز بين العرب العاربة والعرب المستعربة والتمييز بين الشعب العربيّ المتمسك بعروبته وبقوميّته غير العنصرية وبين حكام تسلقوا إلى كراسي السلطة من غير أهلية وغير اختيار شعبي، وبالتالي إنّ سلوك هؤلاء المعادي للعرب وللعروبة لا يبرّر للعرب التنكّر لعروبتهم بل يفرض مزيداً من التمسك بهذه العروبة ومزيداً من العمل لإسقاط الحكام أعداء العروبة، وفي ذلك رسالة واضحة لمن شنّ الحرب تقول فشلت الحرب في ضرب الانتماء القومي لسورية وفشل الأعداء عن إبعاد سورية عن قضية العرب الأولى فلسطين «رغم ما قام به البعض من غدر ونفاق».

2 ـ الرسالة الوطنية. وفي هذه الرسالة الكثير من العناوين والتي تبدأ بوحدة الشعب السوري، وخطة سورية لاستعادة أبنائها المضللين وترميم النسيج الاجتماعيّ بما يخدم فكرة الوحدة الوطنية الحقيقية للشعب وكان هاماً الدعوة المتكرّرة والمشدّد عليها من قبل الرئيس لعودة من ضلّ واستئناف عمله في كنف الوطن وحضنه. وهنا لا بدّ من التنويه بالقرار السوري الاستراتيجي القاطع باستكمال تحرير ما تبقى من أرض سورية بيد الإرهاب المدعوم من الاحتلالين الأميركي والتركي. مؤكداً أنّ عملية التحرير التي تقودها الدولة خطّط لها على أن تنفذ باستراتيجية

المراحل وتعدد الوسائل من أجل الاقتصاد بالقوى وحقن الدماء. وعليه فإنّ التحرير يتمّ على مسارين متوازيين… مسار سلمي تصالحي تستعاد به الأرض ومَن عليها دون قتال ونار ودمار، ومسار عسكريّ ميداني يكون العلاج الأخير إنْ لم يحقق الأول أهدافه. وهنا تكون أيضاً المرحليّة في التنفيذ بشكل يفسح فيها لأعمال سياسة الترغيب والترهيب أيضاً وأيضاً من أجل حقن الدماء ما يعني أنّ تراخي الزمن في إتمام عملية التحرير ليس عجزاً بل حرصٌ على الأنفس والقوى.

3 ـ الرسالة الإقليمية والدولية. حملت رسائل الأسد هنا إشارات واضحة إلى شبكة العلاقات والصداقات والتحالفات الاستراتيجية التي نسجتها سورية التي ترفض الحياد بين الحق والباطل وترفض النأي بالنفس عن مسائل الإقليم والقضايا الدولية. فـ»النأي بالنفس» ليست سياسة للنصر بل هي استرخاء يمهّد للعزل وللاستسلام، ولمن ظنّ أنّ الحرب ستقتلع سورية من محورها الإقليمي ـ محور المقاومة ـ أو تحالفاتها الدولية وبشكل خاص مع إيران وروسيا والصين، فإنّ الرئيس الأسد أكد في بدء ولايته أنّ سورية القوية هي اليوم أشدّ تمسكاً بتلك التحالفات التي تساعد أيضاً على حفظ السيادة السورية على الأرض السورية الواحدة المحرّرة. وفي هذا التأكيد صفعة أخرى لأرباب العدوان من عتاة الحرب الكونيّة الذين زعموا أنّ سورية ستنقل إلى الضفة الأخرى من الصراع الإقليمي والدولي.

4 ـ الرسالة إلى محتلي بعض الأرض في سورية. هنا كان تحديد صريح للاحتلالين في الشمال والاحتلال في الجنوب. فأكد الأسد على تحرير الجولان من الاحتلال «الإسرائيلي» مع تحرير مناطق إدلب وشرقي الفرات من الإرهاب الذي يرعاه الاحتلال التركيّ في الشمال الغربي والشمال ويرعاه الاحتلال الأميركي شرقي الفرات، وأنّ هذا التحرير هو نصب أعين سورية ولا تنازل ولا تفريط بحبة تراب من الأرض السورية. وفي هذا رسالة مباشرة تنطوي على مضامين متعدّدة خاصة انّ الرئيس لم يحصر وسائل التحرير بجهة واحدة بل انه وسع الخيارات وقد تكون صاعقة للعدو إشارة الرئيس الأسد إلى خيار المقاومة الشعبية التي يطلقها الشعب في المناطق المحتلة أو من خارجها، مقاومة ستكون برعاية الدولة وإسنادها وهنا يعلم الجميع مدى الاحتراف السوري في دعم المقاومات الشعبية المسلحة والسلمية وأمثلة فلسطين ولبنان والعراق ماثلة في الأذهان. أنّ الإشارة إلى المقاومة الوطنية السورية التي بدأ الاحتلال يلمس بعض آثارها تعتبر برأينا من أهمّ ما تضمّنه الخطاب في مسار تحرير الأرض السورية، إشارة ستحمل أميركا بشكل خاص على مراجعة الموقف لتفكيك احتلالها لأرض سورية، أما تركيا فإنها تعلم أنّ كلّ تبريراتها لاحتلالها لن تجديها نفعاً لترسيخ احتلالها. فظروف اليوم ليست كالأمس وتحرير الأرض أصبح حقيقة لا يمكن الهروب منها. أما «إسرائيل» التي تراقب ما يجري في الجولان ومحيطها فبات عليها أن تعلم أنّ بناء المقاومة ليس أمراً عارضاً بل هو قرار استراتيجي عليها التعامل معها على هذا الأساس