لم يتحرّك خيار الرئيس نجيب ميقاتي لتولّي مهام تشكيل الحكومة العتيدة بإرادة داخلية فقط، بل جاء ذلك خصوصاً بدفع فرنسي كبير من خلف الستارة وبتأييد اميركي كامل وبتشجيع روسي.

وقد عبّرت عن ذلك صراحة الاوساط القريبة من النائب جبران باسيل، واعتبرتها بمثابة حصول صفقة لم تشمل «التيار الوطني الحر»، كي لا نقول على حساب الأهداف السياسية التي يتوخاها باسيل من الحكومة المقبلة.

حتى الآن يبدو انّ الرقم ثلاثة هو رقم السعد للرئيس ميقاتي. ففي سابقة لم تألفها الحياة السياسية اللبنانية، ها هو ميقاتي المرشح الثالث لتأليف الحكومة، بعد فشل مصطفى اديب وسعد الحريري. وهو ايضاً الترشيح الثالث لميقاتي في تاريخه السياسي بعد عامي 2005 و2011.

حتى الآن تبدو الصورة وردية امام ميقاتي، الذي جاء من سفره مدججاً بقوة دافعة فرنسية، أنجزت ما أنجزته في الأروقة الديبلوماسية، اضف الى ذلك تأييداً اميركياً كاملاً، ستتظهر صورته الى العلن في الايام المقبلة من خلال الديبلوماسية الاميركية.

النتيجة حتى الآن مشجعة لميقاتي، بعد ان تأمّنت معظم شروطه. سعد الحريري سيسمّيه علناً، و»حزب الله» سيُظهر تأييده له بطريقة او بأخرى، ورئيس الجمهورية ارسل إشارات إيجابية، والأهم التبدّل في الموقف السعودي. صحيح انّ الرياض لم ولن تعلن تأييدها لخيار ميقاتي، لكنها ايضاً لن تعارضه. وهذا ما تظهر بوضوح في الموقف المبكر لحليف السعودية الاول في لبنان، اي «القوات اللبنانية»، التي أعلنت موقفها بعدم تسمية احد. وهذا موقف متقدّم لناحية عدم تسمية شخصية اخرى كما كان يحصل سابقاً مع تسمية نواف سلام.

لكن موافقة «حزب الله» على خيار ميقاتي ولّد اعتراضاً لدى رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل. فالاخير كان يراهن على تسمية رئيس للحكومة يدور بالكامل في فلكه السياسي، ليذهبا سوياً الى حكومة يُطلق عليها حكومة الاخصائيين المحايدين، فيما هي فعلياً حكومة يحظى فيها باسيل ومعه «حزب الله» ضمناً بقرارها. فهي الحكومة التي ستشرف على الاستحقاقات المنتظرة مثل الانتخابات النيابية، وخصوصاً الاستحقاق الرئاسي الذي قد يقع في محظور الفراغ، لتتسلّم هذه الحكومة دفة الحكم ويصبح تأثيرها اساسياً في تحديد اسم الرئيس. و»حزب الله» بدا اكثر واقعية امام حجم الزلزال الاقتصادي والمالي والحياتي الذي يسحق الناس ويدفع بهم الى الفوضى في الشارع. هو يدرك انّ الناس بحاجة الى «تنفيسة» تسمح بترتيب بعض الامور على عجل، خصوصاً وانّ الشارع بات مفتوحاً بالكامل، اضافة الى محطات سترفع من لهيب الشارع، مثل ذكرى انفجار الرابع من آب. وقد لا تكون الاسباب تنحصر في الشق الداخلي فقط. فليس تفصيلاً ان يعمد وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لو دريان الى عقد اجتماع طارئ فور وصوله الى نيويورك للمشاركة في اعمال الامم المتحدة مع نظيره الاميركي انتوني بلينكن، خُصّص في جزء اساسي منه للتطورات اللبنانية، حيث تمّ الاتفاق على إرسال رسالة شفهية بإسم كل واحد منهما عبر سفيرتيهما في لبنان، الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، قبل ساعات من دفع الحريري للاعتذار.

الهدف الفعلي من الرسالتين كان للتحذير من مغبة عدم ولادة حكومة لبنانية. وليس تفصيلاً ايضاً ان تتحضّر الدول الاوروبية الاساسية للبدء في تطبيق سياسة العقوبات بحق شخصيات لبنانية.

في الواقع، تطورات اقليمية هائلة تطال «حزب الله» بشكل مباشر، ما يجعله يشعر ايضاً بهول الحصار والتضييق، ولو انّه يتقصّد اظهار خلاف ذلك. فللمرة الاولى منذ زمن بعيد ينطلق صاروخان من جنوب لبنان باتجاه شمال اسرائيل.

اياً يكن من تولّى اطلاق الصاروخين، الّا انّ القناعة لدى الغربيين بأنّ «حزب الله» هو الذي يقف وراء العملية، وانّه كان يحمل رسالة بجزءين، الاول يتعلق بمسائل خارج الحدود، والثاني يشير الى انّ المبالغة بالضغوط ستؤدي الى إباحة المحظورات، كمثل إعادة تحريك الأمن عند الحدود الجنوبية.

كل هذه الصورة جعلت الطريق معبّدة امام تكليف ميقاتي، الذي سمع التزاماً فرنسياً واضحاً بتحريك المساعدات فور تشكيل حكومة تحظى بالمواصفات الفرنسية والدولية المعروفة، وبعد بدء التعاون مع صندوق النقد الدولي حول الاصلاحات المطلوبة. لكن التكليف شيء والتأليف شيء آخر.

لا ضرورة للتكرار بأنّ ورقة جبران باسيل القوية الوحيدة التي لا تزال بين يديه هي توقيع رئيس الجمهورية. وهو ما يعني انّ هذا التوقيع لن يحصل الّا اذا وافق باسيل. ويتردّد انّ المجموعة المحيطة برئيس الجمهورية والتي أمسك بها باسيل، عملت على تغذية ما يشبه عقدة الذنب لدى الرئيس عون، بأنّ باسيل دفع فاتورته، وانّ استهدافه ليس بسبب فشله بل انتقاماً من عون. ولهذا السبب جرى إحراق اوراقه الرئاسية، وهو ما يعني رميه على قارعة الطريق السياسية بعد انتهاء العهد، وجعله مكشوفاً وعرضة للانتقام والتنكيل. وقد سمع العديد من زوار القصر رئيس الجمهورية يتمتم بأنّه هو السبب الذي يجري استهداف باسيل لأجله.

في المقابل، فإنّ باسيل الذي يقاتل بشراسة لاستعادة اوراق قوته من خلال الحكومة المقبلة، يتمسك بشرطين لن يزيح عنهما حتى ولو زلزل البلد بأسره: الثلث المعطّل وحقيبة الداخلية. الثلث المعطّل يشكّل روح الحكومة وعروقها وبالتالي التحكّم بها وبمسارها، تماماً كما رئيس الحكومة. ووزارة الداخلية التي تمسك قانوناً بالمفاصل الامنية في البلد، وتشرف على الاستحقاق النيابي، والأهم حين سيصبح وزير الداخلية في مرحلة الفراغ الرئاسي الحاكم الفعلي للبلد، وحيث تخضع له كافة المؤسسات الامنية والعسكرية العاملة داخل الحدود.

واذا ما تمّ اضافة وزارة العدل، فستكون عندها «زيت على زيتون» كما يقولون في العامية.

في المقابل، لا يبدو ميقاتي مستعداً لتلبية اياً من هذين الشرطين، رغم المرونة التي يوحي بها، الّا أنّ ترؤسه لحكومة العام 2011 اظهرت صعوبة التحكّم بقراراته. لذلك لا يبدو مشوار التأليف ميسراً، والمرونة الظاهرة اليوم قد تكون تهدف الى تسجيل نقاط اعلامية والتزوّد بالأعذار والذرائع لمرحلة الاشتباك والطلاق. ولذلك ايضاً، ظهر رأي دعا الى تأجيل المشاورات الملزمة ولو لأيام، بهدف التفاهم المسبق على العناوين المطلوبة من تشكيل الحكومة مسبقاً.

وابلغ ميقاتي من التقاهم، انّه لن «يغرق» في الرمال المتحركة لتأليف الحكومة. لذلك فهو سيكون مرناً في السياسة وفي الوقت نفسه سيحترم شراكة رئيس الجمهورية في عملية التأليف، بشرط الّا يمسّ ذلك المسلّمات المتفق عليها دولياً للحكومة، لأنّ اي خطأ في هذا المجال سيترك لبنان في عزلته الدولية، وسيضاعف من هول الانهيارات المتلاحقة الحاصلة.

ونُقل عنه قوله، بأنّ هذا لا يعني أنّ المهلة التي وضعها لنفسه ستكون مفتوحة، وهي قد لا تتجاوز فترة الاسبوعين. فإذا لم ينجح في مهمته فهو سيقدّم اعتذاره من دون مماطلة او مماحكة، وقد يكون ميقاتي يستند الى مواكبة دولية لحركته هذه. لكن في حال الفشل والذهاب الى حكومة اللون الواحد، كما يخطط باسيل، فإنّ الانتحار سيصبح اقرب، خصوصاً وسط الإغراء الجاري تعميمه، بأنّ الانهيار سيُلزم القوى الدولية بالنظر الى الازمة اللبنانبة على انّها ازمة نظام، او بتعبير أوضح، لإرغام هذه الدول على فتح باب تعديل النظام اللبناني بشكل جذري.