غداة إنفجار الرابع من آب 2020 المَشؤوم، خرج رئيس الحُكومة آنذاك الدُكتور حسّان دياب على اللبنانيّين بتعهّد بكشف ما حدث، وبإعلان النتائج في مهلة زمنيّة تبلغ خمسة أيّام. لكن وعشيّة الذكرى السنويّة الأولى لإنفجار المرفأ والتي تُصادف الأربعاء المُقبل، لا تزال العرقلة مُستمرّة لمُجريات التحقيق، ولا تزال الحقيقة غائبة على الرغم من صرخات أهالي الضحايا ومن مُناشداتهم. فما الذي يحدث، وهل من أمل بالوُصول إلى الحقيقة يومًا ما؟.

بداية لا بُدّ من التذكير أنّ كل جُهود المُحقّق العدلي السابق القاضي فادي صوّان ذهبت مع الريح، حيث كفّت محكمة التمييز الجزائيّة في لبنان يده عن التحقيقات في قضيّة إنفجار بيروت في 18 شباط الماضي(1)، ليتمّ بعد ذلك الإفراج عن الكثير من الموقوفين، في ظلّ إشاعات عن براءة مُتهم هنا وعن ظُلم موقوف هناك، الأمر الذي ضاعف من الضياع اللاحق بهذه القضيّة. ومع إنتقال ملف التحقيقات إلى يد المُحقّق العدلي الجديد، القاضي طارق البيطار، جرت مُحاولة جديدة لإستدعاء شخصيّات سياسيّة وأمنيّة وإداريّة بارزة، لكنّ مصيرها-أقلّه حتى الساعة، لم يكن أفضل من المُحاولة التي قام بها المُحقّق العدلي السابق قبل تنحيته عن الملفّ.

وفي هذا السياق، وبالنسبة إلى الشخصيّات السياسيّة، رفض مجلس النوّاب اللبناني رفع الحصانة عن ثلاثة من نوّابه(2)، وطلب أدلّة قضائيّة، ثم قام المجلس بابتداع هرطقات مُختلفة للتهرّب من خُضوع نوّابه للمُحاكمة، مُتحصّنًا بالمادة 40 من الدُستور(3) لحماية النوّاب، وبالمادة 70 منه(4) لحماية الرؤساء والوزراء. وبالإنتقال إلى الشخصيّات الأمنيّة، رفض وزير الداخليّة في حُكومة تصريف الأعمال محمد فهمي منح الإذن لمُلاحقة المُدير العام للأمن العام اللواء عبّاس إبراهيم، مَدعومًا من المُحامي العام التمييزي القاضي غسّان الخوري الذي رأى أنّ "المُعطيات القانونيّة لمُلاحقة اللواء إبراهيم غير متوافرة". وحتى اللحظة كل ما يُحكى عن إستعداد لرفع الحصانات، يدخل في سياق المُزايدات الإعلاميّة والشعبويّة، من دون أن يكون مَقرونًا بأي إجراء فعلي ومضمون النتائج. من جهة أخرى، لم يتمّ إعطاء الإذن بمُلاحقة مدير عام أمن الدولة اللواء طوني صليبا، بحجّة أنّ المجلس الأعلى للدفاع هو المرجع المُختصّ للنظر بإمكان منح هذا الإذن، وأنّ المُديريّة العامة لرئاسة الجُمهوريّة طلبت رأي هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل، وخلصت إلى هذه النتيجة.

والأمثلة على تهرّب شخصيّات سياسيّة وعسكريّة وإداريّة من التحقيق مُتعدّدة، من رئيس حُكومة تصريف الأعمال حسان دياب(5) نُزولاً، وهي تضع مُجمل التحقيق على المحكّ، لأنّ العدالة لا يُمكن أن تُطبّق "على ناس وناس"-كما يُقال باللغّة العاميّة، خاصة وأنّ المُحقّق العدلي تعرّض لحملات إعلاميّة قاسية إتهمته بالإستنسابيّة، لأنّ إستدعاء أي قائد جيش أو مسؤول مُخابرات أو وزير اشغال أو وزير داخليّة أو رئيس حُكومة، ِإلخ. يجب أن يشمل كل الشخصيّات التي تولّت مهمّات مُماثلة خلال فترة وجود "نيترات الأمّونيوم" في مرفأ بيروت. وزاد هذا الأمر من ضبابيّة المَشهد، حيث تعزّزت الشُكوك بأنّ هناك جهات سياسيّة داخليّة فاعلة، تستغلّ الثغرات القانونيّة، للتعمية على الملفّ ولإخفاء الحقيقة، وبأنّ دور "نيترات الأمّونيوم" كان أبعد وأعمق من مُجرّد "إهمال وظيفي" من قبل بعض المسؤولين، وكان مُرتبطًا بصراع أمني إقليمي وحتى بعمليّات أمنيّة دَوليّة!.

وبالتالي، يبدو أنّ أهالي الضحايا، والمُتضرّرين من الإنفجار، وكل القوى والجمعيّات والمواطنين الذين يدعمونهم، سيكونوا على موعد مع تحرّكات ميدانيّة حاشدة في الرابع من آب، إعتراضًا على تعثّر المسار القضائي من دون أيّ أفق لحلحلة قريبة. واللافت أنّ كل هذه العرقلة تشمل شخصيّات مُتهمة بأنّها كانت على علمبما كان يُوجد في المرفأ، ولم تقم بما يلزم لإبعاد هذا الخطر عن الناس، بينما كشف حقيقة الجهة التي إستوردت نيترات الأمونيوم، وتلك التي خزّنتها، وتلك التي إستعملتها أو باعتها، وربما تلك التي فجّرتها لاحقًا، يستوجب مسارًا آخر لم يصل التحقيق إليه بعد، وربما من المَمنوع أن يصل إليه!.

صحيح أنّ القاضيالبيطار مُصمّم على تقديم الأذونات للجهات المُختصّة لمُحاولة مُتابعة تحقيقاته، وهو يعتزم الإلتفاف على قرارات العرقلة، لكنّ هذه النيّة غير كافية لكشف الحقائق، طالما أنّ كل جلسة تحقيق ستستوجب مسارًا قانونيًا شاقًا وطويلاً، من شأنه إضاعة الكثير من الوقت، وتمييع القضيّة، وتغييب الكثير من الأدلّة بحُكم مرور الوقت. وحتى الدعم الشعبي، مهما كان واسعًا، غير كاف لإعادة التحقيق إلى مساره الطبيعي، خاصة وأنّ كل المُدعى عليهم يتنصّلون من المسؤوليّة، ويزعمون أنّهم أبلغوا الجهات المَعنيّة بالخطر الموجود، وأنّ دورهم ينتهي هنا، علمًا بأنّه يُوجد غمز بوجود مسؤوليّة كبيرة على جهات قضائيّة مُختلفة لم تذهب بقضيّة "نيترات الأمّونيوم" إلى النهاية عندما تبلّغت بوجودها، ويُوجد غمز أيضًا أنّ جهات عسكريّة رفيعة تعاملت مع القضيّة بإستخفاف، بينما هي الجهة الأكثر معرفة بالخطر المُحدق من هذه المواد.

في الختام، الوضع مُعقّد جدًا، والوُصول إلى الحقيقة يتطلّب أكثر من مُجرّد تصميم من جانب المُحقّق العدلي. وطالما أنّ شخصيّات عدّة محسوبة على جهات سياسيّة مُختلفة ضُمن المَنظومة الحاكمة، هي تحت قبضة الإتهام، ومُحاكمتها تتطلّب إجراءات قانونيّة ودُستوريّة عدّة، لن يكون من المُمكن الوُصول إلى الحقيقة-على الأرجح، لأنّ أحدًا لن يُحاكم نفسه!.

1- قرّرت محكمة التمييز برئاسة القاضي جمال الحجّار نقل ملف التحقيقات بانفجار مرفأ بيروت إلى قاض آخر، على خلفيّة طلب وزيرين سابقين إدعى عليهما صوان.

2- هم نهاد المشنوق (كان وزيرًا للداخليّة) وغازي زعيتر (كان وزيرًا للأشغال) وعلي حسن الخليل (كان وزيرًا للمال).

3- تنص المادة 40 على: "لا يجوز أثناء دور الإنعقاد إتخاذ إجراءات جزائيّة نحو أيّ عُضو من أعضاء المجلس أو إلقاء القبض عليه إذا إقترف جرمًا جزائيًا إلا بإذن المجلس، ما خلا حالة التلبّس بالجريمة (الجرم المشهود)".

4- تنص المادة 70 على: "لمجلس النوّاب أن يتهم رئيس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخيانة العُظمى أو بإخلالهم بالواجبات المُترتّبة عليهم، ولا يجوز أن يصدر قرار الإتهام إلا بغالبيّة الثلثين من مجموع أعضاء المجلس".

5- رفض دياب الخُضوع للتحقيق، عندما جرى إستدعاؤه من قبل المُحقّق العدلي السابق مُنتصف كانون الأوّل الماضي، وهو حظي بحماية مذهبيّة مَعنويّة.