ربّما تذكرون كلّكم قصّة "الأمير ومأموره في البلاد البعيدة". تلك القصّة التي سقتها إليكم منذ مُدّة، ولا زالت "تُجرجر" إلى الآن، وموضوعها أميرٌ ومأمور؛ أميرٌ اتّهِم ب​الفساد​، فلَم يعزله ولم يُحله أمير الأمراء على المُحاكمة، "بل زكّاه وبرّره وأبقاه أميراً على إمارته، مُتنعِماً هو وحاشيته بالحماية الإلهيّة الحاضرة غُبّ الطّلب، لتكون إلى جانب الأمراء في رعايتهم لإماراتهم المُقدّسة". ومأمورٌ اتُّهِم بما اتُّهم به الأمير، فجرّده هذا الأخير من مكانته، وعزله، وغرَّر به وبصيته وعائلته، وجرّه إلى المحاكمة ليُبعد الأنظار عنه هو، بعدما دلّت وسائل الإعلام على فساده هو، واستغلّ سلطته "الإلهيّة" ليُملي إرادته على القُضاة، تحت طائلة الغضب الإلهي، إن لَم يستجيبوا له ويخضعوا لإرادته. ولكن شتّان ما بين عدل قضاته الصّاغرين، وعدل قضاة البلاد البعيدة الذين إن حكموا فبالحق، وإن نطقوا فبالصدق. برّأ القُضاة ساحة المأمور، وردّوا له اعتباره، وداووا كرامته المجروحة، ما جعل الأمير يخرج عن طوره، ويُهدّد ويتوعّد، وكيف لا والأمير أميرٌ ليُطاع، حتى ولو ظَلَم! والمأمور مأمورٌ ليُطيع، حتى ولو ظُلِم!.

المهمّ الآن في الموضوع أنّ الأمير هذا السّاكن مُتنعمّاً بمال حاشيته في البلاد البعيدة، والمُحاط بلاحسي الأعتاب ولاعقي الأحذية، سقط، وبالطريقة نفسها التي سقط فيها من قبله مَن ظنّوا أنّهم شيء وهُم لا شيء، ونجح المأمور! سقط الأمير الحاكم باسم الألوهة الحالّة فيه، على ما يعتقد، في امتحانين: امتحان الرّعاية الأبويّة التي تفترض بالأمير أن يرعى إمارته باستقامة وعدالة ممزوجة بالمحبّة والغيرة على رعيّته. وفي امتحان الشهادة للحقيقة التي من المفترض به أن يُمثّل وجهها المرئي، كونه ضامن العدالة في إمارته؛ فكان ظالماً عِوض أن يكون عادلاً، ومتملِّقاً عوض أن يكون صادقاً، وملتوياً عِوض أن يكون مستقيماً. سقط الأمير، ونجح المأمور. نجح المأمور في امتحان النّار الذي كواه، وأظهر جِلده وجِلدته الحقيقيّة أمام الإمارة كلّها في البلاد البعيدة وفي بلده! وسقط الأمير، وسقطت معه مصداقيّته أمام الرعيّة ولو مهما تظاهر بالصّدق، وعسَّل لسانه بحلو الكلام، وأظهر نفسه مظلوماً لا ظالِماً، واعتصم بشلّة من زمرته الذين يدورون في فلَكه صاغرون رغبةً في مكسبٍ خسيس، ليؤكّد على صحّة قوله وسداد رأيه! وبالمناسبة، هل كان الأمير سيُبرّأ كمأموره، لو اشتكى عليه أمير الأمراء، وعزله وأحاله إلى القاضي! أنا أعرف الجواب على هذا السؤال، ولكنّني لا أُريد أن أفعل... أن أُجيب!.

"ياه" ما أقساه من شعور أن يُجرَّم إنسان، وهو بريء، وأن يُجَرَّم من فاسد! وأن يُرذل ويُهمّش إنسان، وهو بريء، وأن يُرذل من حاقد! وأن يلاحقَ إنسانٌ، وهو بريء، وأن يُلاحق من كائد، وهو صامت لا يفتح فاه! وما أجمله من شعور أن يُبرّأ إنسان وهو بريء، ولو تأخّر فمُ العدالة بالنطق! وفي المقلب الثاني، ما أقساه من شعور على المجَرِّم الحاقد، أن يُبرّئ البريء أمام وجهه، ورغماً عن إرادته! الحالة الأولى هي حالة المأمور، والحالة الثانية هي حالة الأمير!.

ما الذي سيحصل الآن؟ رُبّما سيبقى الأمير على عناده باستقصاء المأمور من مملكته التي تعبت منه ومن حكمه لها، ومن حالة الإنفصام التي يعيشها ما بين الذئب الذي يقتنيه في قلبه، والحمل الذي يرسمه على وجهه! ربّما سيعمد الأمير إلى إصدار فرمانات جائرة كتلك التي أصدرها في يومٍ من الأيّام بحق مأموره! ولكن، ما الذي سيضمن أن المأمور سيبقى صامتاً يحتفظ في عبّه بما لديه من وثائق تدين الأمير! لست أدري، فالوقت وحده كفيل بالإجابة على هذا السؤال... ولكنني أعتقد بأن للحديث تتمّة.