مرّ عام كامل على "فاجعة لبنان الكبرى"، تلك التي اختزلها أحد أقوى الانفجارات غير النووية وأعنفها في التاريخ، ​انفجار مرفأ بيروت​ المروّع، الذي غيّر وجه العاصمة برمّتها، وحوّلها إلى دمار وخراب، وجعلها أقرب إلى "المدينة الميتة"، إن جاز التعبير، تاركًا حصيلة "ثقيلة" من الضحايا، الأموات منهم كما الأحياء، وما أكثرهم.

في الذكرى، لا يحتاج اللبنانيون، "الصامدون" منهم على الأقلّ، إلى "استرجاع" تلك اللحظات المُرّة والصعبة من الأرشيف، لأنّهم حُفِرت في أذهانهم، وهي لم تغادرها مُطلَقًا، بعدما "استوطنت" مخيّلاتهم، وأصبح الخوف من "الموت على الطرقات" ملازمًا لهم، في سياق ما يصنّفه الخبراء النفسيّون بـ"تروما" ما بعد الانفجار.

ولكن، حتى في حال الابتعاد عن منطق "الصدمة النفسية" التي أصيب بها جميع اللبنانيين الذين "عايشوا" لحظة الانفجار، فإنّ جولة بسيطة في أرجاء العاصمة، وفي محيط المرفأ تحديدًا، كافية لاسترجاع شريط الأحداث، فبيروت لم تستفق بعد من "هول" الجريمة، حتى إنّ بعض الأبنية المهدَّمة لم تُرمَّم بعد، والحزن والقلق يسيطر على كلّ الوجوه.

وسط كلّ ذلك، يستعدّ اللبنانيون لإحياء الذكرى السنوية الأولى للانفجار الكبير، فيما "تتأهّب" السلطة التي "تباهت" بإعلان "حداد عام" بالمناسبة، وضعته في إطار "التضامن" مع أهالي الضحايا وعائلاتهم، لكنّها لم تتردّد في إقرانها بخشية وتوجّس من التحرّكات "العفوية" المرتقبة، والتي قد تتحوّل بقدرة قادر إلى "فوضى وشغب".

تتوجّس السلطة إذًا ممّا قد يحصل في 4 آب 2021، من دون أن تتحمّل حتى الآن أيّ مسؤولية، ولو أخلاقيّة بالحدّ الأدنى، تجاه ما حدث في 4 آب 2020. حاولت أن تستبق هذا الموعد بتحقيق "إنجاز" ما، على غرار تشكيل حكومة، لعلّها تنجح في "تنفيس الاحتقان" بالحدّ الأدنى، لكنّها لم تفلح، كما لم تفعل منذ زهاء عام كامل، قضته بتصريف الأعمال.

تتوجّس السلطة ممّا قد يفعله الشعب "الغاضب" في ذكرى الفاجعة الكبرى، وتتخوّف من "انتفاضة" مُحِقّة ومشروعة قد يلجأ إليها، وتحذر من "طابور خامس"، وربما أكثر، قد يعمد إلى "استغلال" الذكرى لتحقيق بعض "الأجندات"، لكنّها، في المقابل، لا تقوى على الإجابة على سؤال بديهيّ، ماذا فعلت هي خلال عام كامل من انفجار عُدّ الأسوأ في تاريخ لبنان؟.

باختصار، لم تفعل شيئًا، إلا إذا كان إعلان "الحداد العام" إنجازًا، تسعى لإضافته إلى سجلّ "الإنجازات" الفارغ على كلّ المستويات. يتذكّر اللبنانيون بحسرة، كيف وعدت الدولة، بكلّ مكوّناتها، بتحقيق تُكشَف نتائجه خلال خمسة أيام فقط، "وعد" بقي حبرًا على ورق تمامًا كما كان متوقَّعًا، ليس لأنّ السلطة "عاجزة"، ولكن ربما لأنّها لا تريد "كشف الحقيقة".

لعلّ ذلك ما يفسّر "تردّد" السلطة في "حسم" فرضيّات التفجير، التي لا تزال التكهّنات كثيرة بشأنه حتى اليوم، بين رواية شبه رسمية تضعه في خانة الإهمال و​الفساد​، نتيجة تخزين ​نترات الأمونيوم​ لسنوات طويلة، دون حدٍ أدنى من الحماية، وروايات أخرى لا تزال منتشرة ولو من دون سَنَد، بينها ما يُحكى عن ضربةٍ صاروخيّة، إسرائيليّة تحديدًا.

لكنّ شيئًا لا يمكن أن يفسّر "ارتباك" السلطة في التعامل مع التحقيق، بل سعيها الذي بات مثبتًا لعرقلته والتشويش عليه. خلال عامٍ واحدٍ، كُلِّف محقّقان عدليّان للنظر في القضية، وتطلّب الأمر "مشاورات" طويلة قبل الاتفاق على اسميهما، في وقتٍ لم تحتج "تنحية" أولهما لأيّ مقدّمات، فيما بدأ الحديث عن أفكار متداولة لـ"تنحية" الثاني.

قد لا يكون مفاجئًا أن تكون تنحية القاضي الأول، فادي صوّان، جاءت لأنّه "تجرّأ" بالادّعاء على عدد من السياسيّين، بينهم رئيس حكومة تصريف الأعمال ​حسان دياب​، والوزيرين السابقين ​علي حسن خليل​ و​غازي زعيتر​، اللذين قرّرا، بكلّ بساطة، الانتفاضة لحصانتهما النيابية، وكأنّها أهمّ من كلّ الضحايا، وطلب عزل القاضي لأنّه "لم يحترمها".

اعتقدت السلطة أنّها بذلك "تقيّد" المحقّق العدلي الثاني، القاضي ​طارق البيطار​، فكانت "المفاجأة" بأنّه سلك الطريق نفسه، لكنّه استفاد من "تجربة" سلفه، فلجأ إلى الطريق القانونيّة، طالبًا منحه أذونات بالملاحقة، ورفع ​الحصانات​ النيابية عن "أصحاب السعادة"، من دون أن يحصل حتى الآن على شيءٍ ممّا طلبه، في ظلّ مسار من "المماطلة" لا تفسير له على الإطلاق.

بعد إعلان البيطار عن المسار الذي سيسلكه، سارع حسن خليل وزعيتر لإعلان "استعدادهما" للمثول أمامه، حتى من دون إذن. وقال رئيس مجلس النواب إنّه مستعدّ لرفع الحصانات فورًا، لأنّ البرلمان مع كشف الحقيقة كاملة، من دون أيّ قيود. لكنّه لم يدعُ حتى الآن لجلسة التصويت على رفع الحصانات، والتي يقول القانونيّون إنها لا تحتاج لأكثر من خمس دقائق.

بدلًا من ذلك، بدأت "البِدَع" تسلك طريقها. عريضة من هنا يوقّع عليها حلفاء النواب المدّعى عليهم، لطلب اتهامهم أمام مجلس أعلى، لم يمارس أيّ دور سابقًا، وبقي شكليًا، ما فُسّر على أنّه محاولة "حماية ولفلفة"، لا أكثر. وعريضة من هناك توسّع مفهوم رفع الحصانات ليشمل الجميع، بمن فيهم رئيس الجمهورية، في تصفية حسابات سياسية ونكايات تتاجر بقضيّة انفجار المرفأ.

يصرّ أصحاب أفكار هذه "البِدَع" والمدافعون عنها، وما أكثرهم، وجلّهم من أصحاب الباع الطويل مع القضايا "المبدئية"، وممّن سقط لهم شهداء، سواء في الصراع مع الاحتلال أو في ​الاغتيالات السياسية​، على أنّهم يريدون الحقيقة، لكنّهم يقفزون إلى الأمام، فيما الطريق أبسط وأسهل بكثير، ولا تتطلب سوى التصويت على رفع الحصانات.

باختصار، لا يريد السياسيّون "الحقيقة" سوى على مقاسهم، على جري العادة، ويخشون أن يتحوّل مسؤول من هنا أو هناك إلى "كبش محرقة". ثمّة في صفوف أهل الضحايا من يسألهم، ماذا لو كان أحد أبنائكم من الضحايا؟ هل كان تعنّتكم سيبقى على حاله؟ أليست تجربة تيار "المستقبل" مع اغتيال مؤسّسه خير نموذجٍ لمثل هذا الاختلاف؟.

لا إجابات شافية على "حرقة" أهالي الضحايا، ولكن توجّس ممّا قد يحصل في الرابع من آب. يخشى السياسيون من طابور خامس وأكثر. يتوجّسون من "ثورة" باتت كلّ مقوّماتها متوافرة، بل بات المُستغرَب عدم حصولها. لكنّهم لم يخشوا يومًا من متفجّرات مخزّنة في مناطق سكنيّة، تبيّن أنّ معظمهم كانوا على علم بها، ولكنهم صمتوا إلى أن وقعت الكارثة!.