كان من المُفترض أن تحصل تنازلات سياسية متبادلة، من أجل تسهيل ولادة حكومة لبنانية. هذا ما كان ينتظره الشعب في الداخل، والعواصم الساعية لتحقيق إستقرار في لبنان. لكن التباينات القائمة بين رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ ومن كُلّفوا ​تأليف الحكومة​ تباعاً: ​مصطفى أديب​، ​سعد الحريري​، و​نجيب ميقاتي​، تؤكد أن الخلاف جوهري لا يتعلق بشخص ولا مزاج ولا خصومة عابرة ولا تحالفات سياسية، بل هو أصبح خلافاً بين السنّة و"العهد الرئاسي". هو سيتظهّر تباعاً في حال اعتذر ميقاتي عن التأليف الحكومي. لا يعني ذلك ان عون يتحمّل المسؤولية وحده، ولا رؤساء الحكومات وحدهم. بل ان المسؤولية الاساسية تقع على عاتق النظام الطائفي في لبنان الذي بات عبئاً على البلد والسياسيين والمواطنين.

عندما زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت العام الماضي بعد حصول انفجار المرفأ، صرّح خلال تفقده الأضرار بأنه سيقترح "ميثاقاً سياسياً جديداً"، لـ"تغيير ​النظام اللبناني​". ثم ردّد في اوائل العام الجاري خلال حديثه مع الاعلاميين أن "النظام اللبناني في مأزق".

يعرف ماكرون ان بلاده هي التي استولدت لهذا البلد نظاماً قبل مئة عام، لم يعد صالحاً الآن بسبب التباينات الجوهريّة بين ممثلي المكونات الطوائفيّة في لبنان. وما عقدة حقيبة الداخليّة الا النموذج عن أزمة النظام، حيث يصرّ المسلمون السنّة على أن تكون من ضمن حصّتهم في الحكومة العتيدة، بينما لا يوافق رئيس الجمهورية على مطلبهم.

ليس إصرار ميقاتي اليوم على إعطاء تلك الحقيبة لوزير سنّي هو تفصيل سياسي يُمكن له التنازل عنه، ولا هو يمارس الترف، بل ان ميقاتي يُترجم قراراً اسلامياً سنّياً كلّفه به رؤساء الحكومات السابقين نتيجة اجتماع ​المجلس الشرعي الاسلامي​ الأعلى. وبناء على هذه المعطيات، لن يستطيع أيّ رئيس حكومة مكلّف أن يخفّض سقف مطالبه التي حملها تباعاً كلٌّ من أديب والحريري وميقاتي.

ولنفترض أن الأخير قرّر الاعتذار نتيجة تلك العقدة، وهو كان ابلغ الفرنسيين بأنه سيتخذ هكذا قرار في حال بقيت عقدة الداخلية، فماذا بعد؟.

سيدعو رئيس الجمهورية لإستشارات جديدة، تسمّي خلالها ذات الأكثرية النيابية التي سمّت ميقاتي أي شخصية بديلة يسمونها السنّة في لبنان -انسجاماً مع مفهوم أرساه التيار "الوطني الحر" بشأن ممثلي الطوائف- فيمضي المكلّف الجديد في ذات السياق الذي سبقه اليه الثلاثة المذكورون، وتتكرر الاعتذارات او يبقى الجمود. عندها لا تولد حكومات خلال عهد رئيس الجمهورية الحالي. ممّا يعني اننا دخلنا علناً في أزمة نظام. فمن سيدفع الثمن؟ الشعب هو اول وأكبر ضحية بكل طوائفه: يُسحق كل المواطنين بأزمة معيشيّة تكبر يوما بعد يوم، وتتراكم، وتتمدّد.

اذا حصل تدخل دولي لمؤازرة اللبنانيين، فلن يكون عبر أيّ دور لحكومة تصريف الاعمال الملغاة منذ أصالتها من الوجود السياسي والشعبي الداخلي، والحسابات الدولية، ولن تأتي المساعدات عبر الأحزاب والقوى السياسية، بل عبر جمعيات ومنظمات مجتمع مدني تريدها العواصم الداعمة بديلاً من القوى السياسية. مما يعني ان كل حسابات تلك القوى خاسرة بمختلف الاتجاهات: ماذا لو ازداد فقر الناس الى حدّ الجوع؟ فهل ينتخب الشعب ذات الشخصيات والقوى، مهما كانت خطاباتها، معارضة او طائفية؟ بالتأكيد هناك خسارة تنتظرها تيارات واحزاب خلال ​الانتخابات النيابية​ المقبلة.

لا يزال الحلّ متاحاً بتقليل الخسائر، قبل الدخول في نقطة اللاعودة لهذا النظام السياسي، من خلال تسوية سياسية سريعة تنتج حكومة فاعلة للحدّ من الانهيارات اللبنانيّة الماليّة والمعيشيّة والامنيّة.

ان واجب القوى المعطّلة للحلول ان تبحث في متغيرات الديمغرافيا التي ستستفحل تداعياتها عند الغوص في التعديلات. صحيح انّ العواصم الدوليّة تبدي الحسرة واللوعة على لبنان، لكنها ستتفرّج علينا كما تفرّجت على التهجير في سوريا والعراق وغيرهما. فهل هناك من يتّعظ؟.