منذ الرابع من آب 2020 كثرت النظريّات بشأن سبب إنفجار ​مرفأ بيروت​، وكذلك بشأن سبب وُجود النيترات لسنوات طويلة على أرض المرفأ من دون التخلّص منها، والأخطر بشأن سبب تناقص كميّاتها تدريجًا إلى درجة أنّ العديد من التقارير الغربيّة أكّدت أنّ كميّة نيترات الأمونيوم التي إنفجرت ودمّرت جزءًا كبيرًا من بيروت تقلّ كثيرًا عن تلك التي جرى شحنها وتفريغها في المرفأ. فأين ذهبت هذه النيترات ولأي غاية؟.

بُعيد وُقوع الإنفجار المشؤوم سارعت شخصيّات ​لبنان​يّة مَحسوبة على "محور المُقاومة" إلى الردّ على الحملة الإعلاميّة التي طالت "​حزب الله​" مُحمّلة إيّاه مسؤوليّة الكارثة، إن عبر نُفوذه الكبير داخل المرفأ أو عبر سيطرته على عنابر مُحدّدة فيه بعيدًا عن أيّ رقابة، وإتهمت هذه الشخصيّات قوى المُعارضة السُوريّة بالمسؤوليّة عن شحن النيترات، وبالإستفادة منها للقيام بعمليّات تفجير ضُدّ الجيش السُوري والمدنيّين، عبر مزج كميّات من نيترات الأمونيوم بمواد مُتفجّرة أخرى، لزيادة وقع الإنفجار.

لكن في المُقابل، ردّت شخصيّات مُناهضة للحزب بأنّ نظريّة تخزين نيترات الأمّونيوم لصالح تنظيمات مُسلّحة مُعارضة للنظام السُوري غير واقعيّة، لأنّ السيطرة على مرفأ بيروت هي لأجهزة أمنيّة رسميّة لا تتعاطف مع المُعارضة السُوريّة، شأنها في ذلك شأن مُختلف الحواجز الأمنيّة الحُدوديّة، أكان من الجانب اللبناني أم من الجانب السُوري. وحتى في حال ​تهريب​ هذه المواد عبر معابر غير شرعيّة، فإنّ المناطق التي يُمكن أن تصلها في الداخل السُوري محدودة، مع التذكير أنّه إعتبارًا من العام 2013، تاريخ وُصول شُحنة نيترات الأمونيوم إلى بيروت، إمتدادًا إلى السنوات التي تلت، سيطر الجيش السُوري والقوى الحليفة له على مُختلف المناطق الحُدوديّة بين لبنان و​سوريا​، بإستثناء أماكن محدودة ومعزولة. وبحسب أصحاب هذه النظريّة، إنّ نيترات الأمونيوم هُرّبت فعلاً على دُفعات من مرفأ بيروت إلى سوريا، لكن ليس للمُعارضة بل لصالح النظام السُوري. وهي كانت تُستخدم في ما كان يُعرف بإسم "البراميل المُتفجّرة"، وهي براميل كانت تُحشى بمواد مُتفجّرة إضافة إلى كميّة من الأمونيوم، وتُرمى من طوّافات تابعة للجيش السُوري على تحصينات تابعة لمُسلّحي المُعارضة، لتدميرها على من فيها. ودعّم أصحاب هذه النظريّة إتهاماتهم بتقارير غربيّة تحدّثت عن تورّط شخصيّات ورجال أعمال مُقرّبين من النظام بملفّ شُحنة النيترات إلى بيروت.

لكنّ المُشكّكين بالنظريّة الثانية، يقولون إنّ الإتهامات الغربيّة، ومنها ما جاء في تقرير لجهاز "أف بي آي" الأميركي عن شحن هذه المواد لصالح النظام في سوريا، تدخل في سياق الحرب المُفتوحة على "المُقاومة"، وتقول إنّ الإتهامات الغربيّة لم ترسُ أصلاً على نظريّة واحدة، لتفنيدها والردّ عليها، حيث هناك أيضًا من إتهم "حزب الله" بتخزينها، لتنفيذ عمليّات تفجير أمنيّة في دول أوروبيّة وغيرها، وهي نظريّة مُختلفة تمامًا عن تلك التي تحدّثت عن تهريب هذه المواد لصالح الجيش السُوري.

في كلّ الأحوال، وبغضّ النظر عن صحّة هذه النظريّات المُتضاربة، الأكيد أنّ كميّة نيترات الأمونيوم التي إنفجرت في الرابع من آب أقلّ بكثير من تلك التي جرى شحنها وتخزينها في المرفأ على مدى سنوات. فأكثر من تقرير غربي تحدّث عن أنّ كميّة النيترات التي إنفجرت تبلغ نحو 550 طُنّ أو أقل، بينما التقارير التي تناولت كميّة الشُحنة تحدّثت عن وُصول 2754 طُنّا من نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت. وإذا سلّمنا جدًلا أنّ جزءًا من هذه الشُحنة لم ينفجر لسبب أو لآخر في الرابع من آب، يبقى السؤال عن سبب إختفاء باقي الكميّة الكبيرة المُتبقيّة. فهل يُمكن أن يكون الأمر مُجرّد سرقة لغايات ماليّة محض، ومن هي الجهة التي إشترت النيترات ولأي هدف، طالما أنّ الشركات التي تُعنى بعمليّات الحفر والبناء وتفجير الصُخور تملك مخازن لها وهي أصلاً لا تحتاج لمثل هذه الكميّة الكبيرة منها؟! وإذا كانت المسألة مُرتبطة بعمليّة تهريب مُنظّمة من لبنان إلى سوريا لغايات أمنيّة وعسكريّة، فمن هي الجهات التي سهّلت هذا الأمر، ونسّقته لوجستيًا، وقامت به على مدى سنوات من دون حسيب أو رقيب؟!.

في الختام، المُهمّة أمام المُحقّق العدلي في قضيّة إنفجار مرفأ بيروت صعبة ومُعقّدة، وإذا كانت العقبات أمامه هي بالعشرات بمجُرّد إتهام أي مسؤول بالتقصير والإهمال الوظيفي، فإنّ العقبات ستكون أشدّ حدّة بكثير لمنع المُحقّق من الوُصول إلى الحقيقة، في حال كانت نظريّة تهريب نيترات الأمونيوم إلى سوريا لغايات عسكريّة لصالح النظام السُوري صحيحة.