كما كان متوقَّعًا، لم يتأخّر "الصدام" ليقع بين رئيس الجمهورية ​ميشال عون​، ورئيس "​التيار الوطني الحر​" الوزير السابق ​جبران باسيل​، من جهة، ورئيس الحكومة المكلف ​نجيب ميقاتي​، من جهة ثانية، ولو أصرّ الأخير على الحفاظ على نفحته "التفاؤليّة"، التي غلّف نفسه بها منذ قبوله تكليفه ​تشكيل الحكومة​، خلفًا ل​سعد الحريري​.

لم يكن صعبًا على من تابع الإطلالة الأخيرة لميقاتي بعيد لقائه رئيس الجمهورية في قصر بعبدا أن يخرج بهذا الاستنتاج، فالتجهّم بدا واضحًا على وجه الرجل، الذي كان "يتمنّى" أن تكون وتيرة التشكيل أسرع، كما قال صراحةً، ولو تسلّح بهدوئه، الذي خرقه أكثر من مرّة، ربما عن غير قصد، انطلاقًا من أسئلة الصحافيين.

ولعلّ عبارة "اللي بدو يفهم يفهم" التي ختم بها ميقاتي حديثه، بعد تأكيده مرّة أخرى أنّ المهلة التي يمنحها لنفسه لتأليف الحكومة "غير مفتوحة"، جاءت لتجسّد المقولة الشهيرة التي تمسّك بها الرجل منذ اليوم الأول، أي "ما قلّ ودلّ"، إذ إنّها كانت كافية للدلالة على عمق "الإشكاليّة" الواقعة على خطّ التأليف، بعيدًا عن الأجواء "الزهريّة" التي يصوّرها البعض.

وإذا كانت الأنظار مشدودة نحو اللقاء الخامس المرتقب بين عون وميقاتي خلال الساعات المقبلة، لعلّه يفتح الباب أمام تقدّم ما، بعدما نشطت الاتصالات السياسيّة، ثمّة من يخشى أنّ الأبواب باتت "مسدودة" إلى حدّ بعيد، وإلا لكان ميقاتي تمسّك بإيجابيّته المستندة إلى ما وصفها بـ"الضمانات الخارجية"، وما كان لـ"ينفعل" بهذا الشكل، إن جاز التعبير.

أما "جوهر" العقدة التي "تباعد" بين عون وميقاتي، فهي تنطلق من مبدأ "المداورة"، الذي يصرّ رئيس الجمهورية على تطبيقه، عملاً بمقتضى المبادرة الفرنسية، التي يتمسّك بها ميقاتي لفظيًا، كما فعل قبله الحريري، وهو يدعو إلى العودة إلى الاتفاق الذي تمّ مع الحريري على تبادل الداخلية والخارجية، قبل أن "ينقلب" عليه في الصيغة الأخيرة التي قدّمها.

في المقابل، يبدو ميقاتي "مكبَّلاً"، فهو لا يستطيع الخروج عن "السقف" الذي تمّ التوافق عليه مع رؤساء الحكومات السابقين، وبينهم الحريري، ولذلك فهو يقترح الإبقاء على التوزيع الطائفي والمذهبي السابق نفسه للحقائب السيادية، منعًا لفتح "وكر الدبابير" على نفسه وفق كلامه في قصر بعبدا، وهو ينتظر من رئيس الجمهورية أن يلاقيه في منتصف الطريق، إذا كان يرغب فعلاً في تأليف الحكومة.

لكنّ المشكلة، وفق ما يرى كثيرون، ليست مرتبطة عمليًا بمبدأ المداورة ولا بحصّة من هنا أو هناك، ولا بالمبادرة الفرنسية التي لم يعد أحد يعيرها اهتمامًا أصلاً، بل هي تتمحور بالمُطلَق حول حقيبة الداخلية "الدسمة"، التي يصحّ وصفها بـ"أمّ العقد"، لدرجة أنّ هناك من يجزم بأنّ تنازل "الثنائي الشيعي" عن حقيبة المال، لو حصل، لن يكون حلاً، لأنّ "عين" الجميع ببساطة هي على "الداخلية" على بعد أشهر من ​الانتخابات النيابية​ المفترضة.

بمعنى آخر، فإنّ حقيبة الداخلية أضحت "كنزًا ثمينًا" بالنسبة لجميع الفرقاء في هذه الحكومة، التي يفترض أن تشرف على الاستحقاق الانتخابي المقبل، إن تمّ في موعده ولم يُرجَأ، علمًا أنّ هذا "التقاتل" على الحقيبة يفترض أن يكون دليل "إدانة" للمتوجّسين من الانتخابات، لا سيما وأنّ "نزاهة" العملية الانتخابية تتطلّب "كفّ يد" وزير الداخلية عنها، لصالح هيئة إشراف مستقلّة بالكامل عنه، ما من شأنه أصلاً إنهاء مثل هذا "الجدال" عن بكرة أبيه.

عمومًا، وبمُعزَلٍ عن مدى "عقم" هذا الجدال، وما إذا كان يمكن أن يقود فعلاً إلى "حلّ" أم إلى "استعصاء"، ثمّة بين "العونيّين" من يعتبر أنّ الإشكاليّة الحاصلة اليوم دليلٌ على وجود مشكلة جوهرية في المقاربة من الأساس، وفي التحالفات أيضًا، لا سيّما بعدما ثبُت أنّ ميقاتي جاء ليستكمل ما بدأه الحريري، رغم اصطدام الأخير بالحائط المسدود.

وفي هذا السياق، ثمّة بين "العونيّين" من يسأل إذا كان الأمر يستحقّ فعلاً "تطيير" الحريري للركون إلى تكليف ميقاتي، الذي استُتبِع بـ"تمثيليّة" الإيجابية والانفتاح والتعاون، التي لم تنطلِ على أحد، قبل أن يتبيّن ما كان واضحًا منذ اليوم الأول، لجهة تمسّك ميقاتي بالخطوط "الحمراء" التي رسمها الحريري، ليبدو إلى حدّ بعيد "وكيلاً" ينوب عن "الأصيل".

ويتذكّر "العونيّون" التجربة السابقة مع ميقاتي، والتي وصفها رئيس "التيار" نفسه بأنّها كانت "غير مشجّعة"، رغم أنّ ميقاتي كان يومها على خلاف مع الحريري، وجاء رئيسًا لحكومة وُصِفت عالميًا بأنّها حكومة الأكثرية، بل حكومة "​حزب الله​"، إلا أنّه خدم فيها "الحريرية السياسية"، وفق ما يقول "العونيّون"، أكثر ممّا كان الحريري نفسه سيفعل.

ويخلص "العونيّون" إلى أنّ "الفرصة" الحاليّة تبقى مُتاحة رغم كلّ شيء، وينبغي أن تُعطى وقتها، طالما أنّ ميقاتي نفسه يؤكد أنّ المهلة "غير مفتوحة"، لكنّ المطلوب، في حال الفشل، وهو المرجَّح، سواء تشكّلت الحكومة أم لم تشكّل، الذهاب إلى "مقاربات" من نوع آخر، تعيد الاعتبار للحلفاء السنّة، الذين باتوا يشعرون أنّهم مهمَّشون.

ويطرح هذا الأمر سؤالاً جوهريًا حول موقف "حزب الله" من هذه المقاربة "العونيّة"، لا سيما أنه يقف إلى جانب رئيس مجلس النواب ​نبيه بري​ في تمسّكه بالحريري مرشّحًا أوحد لرئاسة الحكومة، أو من يسمّيه أو يباركه هو، في وقتٍ ثبُت بالنسبة لـ"العونيّين" أنّ مثل هذه المقاربة تضرّ بـ"العهد" ولا تنفعه، لأنّ الحكومة ولو شُكّلت بهذه المواصفات، ستكون "مشلولة".

"لماذا طيّرنا الحريري؟"، يسأل "العونيّون"، وفي قرارة أنفسهم أنّ لا فرق بين الحريري وميقاتي، بل إنّ عجز الأخير عن التأليف بعد الحريري وأديب سيشكّل عنصر "إدانة" لهم بنظر الرأي العام، رغم أنّ الثلاثة ينتمون إلى "النادي" نفسه، ولا يختلفون سوى بالطبع والشخصيّة، ما يحيل السؤال إلى "الحلفاء"، المعنيّين أكثر من أي وقت مضى، بإثبات "حسن النوايا"، كما يقولون...