ليست المرّة الأولى التي يتمّ فيها إطلاق بضعة صواريخ عشوائيّة من لبنان نحو المُستعمرات الإسرائيليّة، لكنّ الردّ الإسرائيلي تجاوز هذه المرّة ما كان يحصل سابقًا من قصف مدفعي مَحدود على المناطق الحُدوديّة، حيث نفّذ الطيران الإسرائيلي غارات جويّة ليل الأربعاء–الخميس على أهداف في الجنوب. فهل سيردّ "حزب الله" على الغارات الإسرائيليّة التصعيديّة، ليُعيد تثبيت المُعادلات التي كانت قد رست إثر حرب تمّوز في العام 2006؟.

بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى أنّ الرشقات الصاروخيّة التي تُطلق عشوائيًا من جنوب لبنان في إتجاه المُستعمرات الإسرائيليّة لا تمتّ بصلة إلى العمل المُقاوم، وهي لا تخدم القضيّة الفلسطينيّة على الإطلاق. فهذه الصواريخ التي ورّطت لبنان في حروب مُدمّرة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، والتي هزّت إستقرار لبنان أكثر من مرّة في الماضي القريب، تُضرّ بالمصالح اللبنانيّة والفلسطينيّة على السواء. وقد ثبت أكثر من مرّة أنّها من عمل خلايا أمنيّة صغيرة، تنتمي إلى جماعات مُسلّحة مَشبوهة التمويل والعلاقات الخارجيّة، تعمل بأجندات إستخباريّة بعيدة كل البعد عن إستعادة ولوّ شبر واحد من الأراضي الفلسطينيّة. تذكير أيضًا، أنّه في الماضي القريب، عجزت إسرائيل عن حماية نفسها عندما إندلعت المُواجهة الأخيرة بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين في أيّار الماضي، حيث طالت الصواريخ الفلسطينيّة العُمق الإسرائيلي، بينما الصواريخ العشوائيّة التي تُطلق من لبنان لا تؤثّر في الصراع، بل تُقدّم الذرائع للإسرائيليّين للتمادي في الإعتداء على السيادة اللبنانيّة.

إشارة إلى أنّ الردّ الإسرائيلي التصعيدي على الصواريخ المَحدودة التي أطلقت من لبنان، جاء بسبب سعي الحُكومة الإسرائيليّة الجديدة برئاسة نفتالي بينيت إلى إظهار حزمها وقوّتها بوجه المُشكّكين في الداخل الإسرائيلي من جهة، ونتيجة إستغلال الطيران الاسرائيلي حالات الفوضى والتخبّط وغياب الإستقرار في لبنان لتوجيه ضربات أمنيّة دقيقة من جهة أخرى، وذلك بحجّة الردّ على الجانب اللبناني، علمًا أنّ إسرائيل تعلم جيّدًا أنّ الصواريخ الثلاثة التي أطلقت والتي سقط أحدها ضُمن الحُدود اللبنانيّة، ليست من صنع "حزب الله"، بل من صنع جماعات مُسلّحة مَشبوهة غير مُحترفة، وتعمل بأجندات إستخباريّة.إشارة أيضًا إلى أنّ الخروقات والإعتداءات الإسرائيليّة على لبنان تتمّ دوريًا بحجّة وبدونها، وهي كانت قد تكثّفت في المرحلة الأخيرة، من تسلّل برّي هنا، مُرورًا بخروقات جويّة وبحريّة هناك، وُصولاً إلى قصف سوريا من سماء لبنان هنالك، إلخ.

لكن، إذا كان الموقف العُدواني والإستغلالي لإسرائيل، مُنتظرًا، لجهة مُحاولة الإعتداء على لبنان بسبب أو بدون سبب، وإذا كان الهدف من تحرّك خلايا أمنيّة مَشبوهة في الداخل اللبناني، مَعروفًا، لجهة السعي لتوريط لبنان في حرب بغير إرادته ولا توقيته، فإنّ الغُموض لا يزال يلفّ موقف "حزب الله" الذي يدرس خياراته بدقّة. فهو من جهة لا يُريد فتح أيّ مُواجهة مع الإسرائيليّين بتوقيت لم يُحدّده بنفسه، ولأهداف لم يرسمها أيضًا. ومن جهة أخرى، لا يريد "الحزب" غضّ الطرف عن الإعتداءات الإسرائيليّة الخطيرة، حتى لا تسقط المُعادلات التي سعى جاهدًا لتثبيتها خلال حرب العام 2006. والمُشكلة أنّ الوضع اللبناني الداخلي لا يحتمل حاليًا أيّ مُواجهة أمنيّة جديدة في الجنوب، وفي الوقت عينه، إنّ ترك الإعتداءات الإسرائيليّة المُتكرّرة من دون ردّ، سيُشجّع الإسرائيليّين على التمادي في خرق السيادة اللبنانيّة، وفي توجيه الضربات، الأمر الذي من شأنه إسقاط ما كان يُطلق عليه تسمية "توازن الرعب".

ويُمكن القول في الختام، إنّه إذا كانت مسألة السلاح بيد مُقاتلي "حزب الله" لا تزال ضُمن المواضيع الخلافيّة التي لم يجد اللبنانيّون بعد أرضيّة مُشتركة لها، بما يسمح لهم بالتوافق حول إستراتيجيّة دفاعيّة مُوحّدة، وحول حصر السلاح بيد الجيش اللبناني والقوى الأمنيّة الرسميّة، فإنّ أغلبيّة ساحقة من اللبنانيّين ترفض أعمال الجماعات المُسلّحة المَشبوهة، على غرار تلك التي تُطلق صواريخ عشوائيّة من الجنوب، بدلاً من أن تقوم بعمل مُقاومة حقيقي من داخل الأراضي الفلسطينيّة. وقد حان الوقت لتحرّك القوى الأمنيّة الرسميّة اللبنانيّة لإجتثاث هذه الجماعات التي لا علاقة لها بتحرير فلسطين من قريب أو بعيد، والتي هي أقرب إلى العصابات المُسلّحة التي تعمل بتوجيهات من أجهزة إستخبارات مَشبوهة، بهدف ضرب الإستقرار اللبناني وتوريط لبنان في مُواجهات وفي مصائب هو في غنى عنها. وقد حان الوقت أيضًا لأن يعمل لبنان سياسيًا وإعلاميًا ودبلوماسيًا بشكل مُختلف كليًا عن السابق، وذلك لوقف الخروقات الإسرائيليّة اليوميّة لسيادته، طالما أنّ "توازن الرعب" فشل في ذلك.