في ثلاثة أيام، انقلبت الصورة الحكوميّة رأسًا على عقب. يوم الإثنين، خرج رئيس الحكومة المكلف ​نجيب ميقاتي​ من لقائه رئيس الجمهورية ​ميشال عون​ متجهّم الوجه وعابسًا. قال إنّه كان "يتمنّى" أن تكون وتيرة التأليف أسرع، وتحدّث عن "مهلة غير مفتوحة"، وأعلن أنّه يرفض فتح "وكر الدبابير" على نفسه، تعليقًا على مطالبة الرئيس بحقيبة الداخلية.

لكن، يوم الخميس، اختلف المشهد كليًا. خرج ميقاتي من اجتماعه مع عون مبتسمًا هذه المرّة، وبدل السلبيّة، تكفّل هذه المرة بضخّ أجواء إيجابية بالجملة. نفى أن يكون رئيس الجمهورية متمسّكًا بأيّ حقيبة، وتحدّث عن خطوة إيجابية وتقدّم بطيء، وأكثر، نفى أن يكون مقيَّدًا بأيّ مهلة، مؤكّدًا أنّه لم يقبل التكليف حتى لا يؤلّف حكومة في نهاية المطاف.

كثيرة هي علامات الاستفهام التي تُطرح عن أسباب وخلفيّات هذا "الانقلاب" في المشهد الحكومي، الذي جاءت ترجمته "سريعة"، وربما غير مبرَّرة، في "سوق الدولار"، حيث ارتفع تلقائيًا الإثنين، ليلامس العتبة التي كان وصل إليها بعيد اعتذار "سلف" ميقاتي، ​سعد الحريري​، قبل أن يتراجع من جديد الخميس، على وقع تصريحات ميقاتي المتفائلة.

ثمّة من يُرجِع ضخّ الإيجابية إلى هذا المُعطى بالتحديد، بعدما أدرك عون وميقاتي وغيرهما أنّ الفائدة من تعميم الأجواء الإيجابية تبقى أكبر، حتى لو لم تستند إلى الكثير من الأسُس الواقعيّة والمنطقيّة، طالما أنّ انعكاسها مباشرة على ​سعر الدولار​، وبالتالي فلا ضير من اعتمادها وتبنّيها بشكل أو بآخر، طالما أنّ الأمور غير مقفلة حكوميًّا بالمُطلَق، أقلّه حتى الآن.

وثمّة من يردّها إلى "مرونة" ظهرت في الاجتماع الخامس، وأعادت أجواء "الانفتاح والتعاون" التي برزت منذ اليوم الأول، خلافًا للمناخات السائدة حول أنّ "الصدام" الذي وقع بين عون وميقاتي قد أصبح "نهائيًا"، حتى إنّ بعض التحليلات الصحافية ذهب لحدّ الجزم بأنّ قرار "الاعتذار" قد اتُخِذ، وأنّ البحث قائم حول "التوقيت المناسب" لإعلانه، لا أكثر.

ومع أنّ بعض التسريبات تحدّثت عن أنّ مردّ التفاؤل لم يكن سوى "القفز" على عقدة "الحقائب السيادية" في الاجتماع الخامس، لصالح البحث بأمور أقلّ تعقيدًا، على غرار التوزيع الطائفي والمذهبي لسائر الحقائب، فإن هناك من يؤكد أنّ ميقاتي، ولو كان "مكبَّلاً" بسقف رؤساء الحكومات السابقين، لا يزال يشعر بأنّ التوافق مع رئيس الجمهورية ممكن ومُتاح.

إلا أنّ هذا الاعتقاد لا يزال في المقابل يصطدم بحقيقة أنّ رئيس الجمهورية متمسّك بمبدأ المداورة، انطلاقًا من إصرار على حقيبة الداخلية، فيما لا يستطيع ميقاتي التخلّي عنها، حتى لو أراد، بعدما وضعها شركاؤه في نادي رؤساء الحكومات السابقين، ضمن "الخطوط الحمراء"، ولأنّه يدرك أنّ تقديمه التنازل الذي رفضه الحريري سينقلب ضدّه شعبويًا.

وبين هذا وذاك، ثمّة من يؤكّد أنّ "انقلاب" الأجواء الإعلاميّة في اليومين الماضيين لا يعود عمليًا سوى لمحطّة الرابع من آب، التي تطلّب التعاطي معها أسلوبًا "استباقيًا" محدَّدًا يوم الإثنين، وأسلوبًا "احتوائيًا" مغايرًا يوم الخميس، بعدما "مرّ القطوع"، إن جاز التعبير، أو كما يعتقد معظم أركان الطبقة السياسية بالحدّ الأدنى، وفق ما ظهر من معطيات الأيام الأخيرة.

في هذا السياق، جاء تصريح الإثنين، عشيّة الذكرى السنوية الأولى ل​انفجار مرفأ بيروت​، "متناغمًا" مع توجّس الطبقة السياسية من "الغضب الشعبيّ" الذي قيل إنّه سيطبع التحرّكات في المناسبة، وللقول بأنّه أراد أن يحقّق "الإنجاز" قبل هذا التاريخ، ليكون هناك حكومة قادرة على مواجهة مطالب المتظاهرين والتعهّد بتحقيقها وفق الحدّ الأدنى المُتاح.

أما وقد انتهت الذكرى، ومرّ "القطوع" بأقلّ الأضرار الممكنة، وبنتيجة "تكتيك" اعتمده السياسيون الذين انسحبوا تلقائيًا وعفويًا من المشهد، فإنّ الأمور عادت بالنسبة للبعض، إلى وضعها الطبيعي، ولم يعد ثمّة حاجة لأيّ مقاربات من النوع الذي خرج الإثنين، بانتظار نضوج "الطبخة" الحكوميّة، وتبلور المعطيات بصورة قاطعة ونهائيّة.

لكن ثمّة من يرى أنّ "طيف" تحرّكات الرابع من آب حضر في كواليس لقاء بعبدا الخامس وما سبقه وما تلاه، فإذا كان الرابع من آب مرّ دون تعقيدات كبرى، ولم يرتقِ لمستوى "الثورة" التي كان يلوّح البعض بها، فإنّ ذلك لا يعني أنّ ما بعده يجب أن يكون مثل ما قبله، خصوصًا أنّ مجموعات كثيرة استعادت "زخمها"، وأعلنت عودتها إلى الشارع.

ولذلك، كان التوافق ربما على مقاربة حكوميّة جديدة، توحي بأنّ السياسيين أخذوا "العِبرة" من تحرّكات الرابع من آب، وأنّ "الرسالة" وصلتهم، وأنّهم من جهتهم قرّروا السير بموجبها ومقتضاها، وبالتالي الانطلاق إلى العمل الفعليّ ل​تشكيل الحكومة​، التي بات واضحًا أنّها "النقطة الأولى" في خريطة طريق "الإنقاذ"، إن بقي للكلمة من معنى.

ولعلّ مؤتمر الدعم الذي خصّص للبنان في ذكرى الرابع من آب أيضًا، وبدعمٍ من الرئيس الفرنسي ​إيمانويل ماكرون​، لعب دورًا على هذا الصعيد، حيث ظهر مرّة أخرى أنّ كلّ المساعدات "الموعودة" لن يصل منها شيء قبل تشكيل الحكومة ومباشرتها ورشة الإصلاحات، التي تكاد تصبح منسيّة إلى حدّ بعيد.

كلّ ما سبق حتّم مقاربة من نوع آخر إذًا لملفّ تشكيل الحكومة، وإن لم تحمل جديدًا نوعيًا، لكنّ الأهم يبقى أن "تترجم" الأجواء الإيجابية على أرض الواقع، ولا تبقى كما يُنظر إليها بشكل واسع، مجرّد "محاولة للتنفيس"، لا أكثر ولا أقلّ، طالما أنّ العقد لا تزال على حالها، والشروط تراوح مكانها، دون أن تظهر في الأفق أيّ "تنازلات" ممكنة.

وإذا كانت الإيجابية "وهميّة"، وفق ما توحي الكثير من المعطيات، أو تحوّلت بقدرة قادر إلى حقيقية، فسرّعت تأليف الحكومة العالقة منذ زهاء عام كامل، يبقى الأكيد أنّها تأخّرت كثيرًا، وأنّ السباق مع "الانفجار الاجتماعي" ثقيلٌ جدًا عليها، وعلى الوطن، وعلى الشعب الذي لم يعد قادرًا على الصبر والبصيرة، رغم كلّ الدعوات!.