التطورات الخطيرة التي حصلت في الجنوب اثبتت مرة جديدة انّ الذهاب الى الحرب خيار غير مطروح في هذه المرحلة على الأقل. فعلى الرغم من كل ما حدث، الّا انّ الجيش الاسرائيلي كما «حزب الله»، حاذرا ملامسة الخطوط الحمر.

صحيح انّ اسرائيل غامرت بإعادة استخدام طائراتها في تبادل الرسائل في الجنوب، لكنها عادت سريعاً عن قرارها، بعد الردّ المباشر لـ«حزب الله». هذه المرة لم تكن الصواريخ مجهولة المصدر، بل كانت الرسالة في وضح النهار وممهورة ببيان مباشر عن «حزب الله».

لكن الردّ والردّ المضاد كما الصواريخ «المجهولة المصدر»، والتي سبقت القصف المدفعي الاسرائيلي، جميعها حاذرت سقوط إصابات بشرية. ورغم الصورة الفوضوية التي رافقت التصعيد، الّا انّ اهداف الردّ كانت مدروسة جيداً عند الجانبين، بحيث لا تحصل إصابات بشرية.

ورغم نفي امين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله، الّا انّ الاوساط الديبلوماسية الغربية تصرّ على انّ ما حصل يأتي في اطار تبادل الرسائل الساخنة واستكمالاً للصراع الاقليمي الدائر بين ايران من جهة واسرائيل ومعها الولايات المتحدة الاميركية من جهة اخرى. وتعلّق هذه الاوساط على خطاب السيد نصرالله الاخير بالقول، إنّه كان موجّهاً بشكل اساسي الى بيئته الحاضنة، كما هو واقع معظم خطاباته في المرحلة الاخيرة. مع اعتقادها بأنّ امين عام «حزب الله» عكس انزعاجه من التطورات الحاصلة.

لكن الأهم، أنّ الذهاب الى الحرب هو خيار غير مطروح في المرحلة الراهنة، بعكس التهديدات المستمرة، والتي تدخل في نطاق الاستثمار الاسرائيلي الداخلي، وسعي رئيس الحكومة الاسرائيلية نفتالي بينيت تثبيت نفسه في وجه بنيامين نتنياهو، وانتزاع ورقة تحدّي ايران و»حزب الله» ومقارعتهما من بين يديه. أضف الى ذلك، إضفاء صفة القوة على حكومته، التي ولدت على اساس ائتلاف بين قوى متعددة ومتناقضة سياسياً وعقائدياً. وخلال الايام التي سبقت المسار التصعيدي، باشرت اسرائيل في تنفيذ خطة وضعتها لتحصين المنازل والمباني العامة وإقامة عوائق على طول الخط الفاصل مع لبنان. وتتضمن الخطة تثبيت وسائل تكنولوجية وكاميرات واجهزة استشعار عالية الحساسية واجهزة إنذار متطورة، قيل انّها بسبب عمليات التسلّل. ولكن الاستنتاج واضح، بأنّ الخطوة هي دفاعية، وبالتالي فلو انّ اسرائيل تخطّط فعلاً لحرب برية، لكانت عمدت الى فتح الجبهة لا العمل على اقفالها، ذلك انّ ما يقلقها كثيراً فضلاً عن الصواريخ الدقيقة، اسطول الطائرات المسيّرة الذي بات يمتلكه «حزب الله»، والذي يتضمن في جزء لا بأس به انواعاً فائقة التطور. واذا كان التوتر جنوباً محكوماً بسقف محدّد لن يتجاوزه احد، الّا أنّ التوتر الذي ساد الساحة اللبنانية الداخلية، وتنقل بين منطقة واخرى، كان مبعث قلق جدّي، خصوصاً وانّه يحصل في ظل أزمة سياسية خانقة تمنع تشكيل الحكومة، وأزمة حياتية متفاقمة تهدّد كل منطقة وكل بيت.

وخلال الايام الماضية، سمع زوار العاصمة الروسية موسكو، وعلى لسان مسؤولين كبار، قلق روسيا من تفاقم الأزمة الحياتية في لبنان، ما سيفتح الطريق امام تفاقم الصدامات المتنقلة بين منطقة واخرى. وبدا أنّ موسكو تخشى من حصول مواجهات اكثر دموية، وهو ما يفتح الباب امام نقل العدوى الى الداخل السوري، بسبب التداخل القوي الحاصل بين الساحتين اللبنانية والسورية، وهو ما سيؤثر بطبيعة الحال على المصالح الروسية في سوريا. وبالتالي، فإنّ موسكو تنظر الى لبنان بعين القلق، وهي تشارك العواصم الغربية نظرتها بأنّ تشكيل حكومة جديدة سيشكّل بداية الطريق الطويل لمعالجة الأزمة في لبنان.

ووفق قراءة كبار المسؤولين في وزارة الخارجية الروسية، فإنّ فرنسا تتعثر مرة جديدة، مع ارتفاع العوائق أمام مسعى الرئيس نجيب ميقاتي لإنجاز تشكيلته الحكومية.

فالأغلب انّ روسيا تنظر الى تخبّط فرنسا في الوحول اللبنانية، فيما الدعم الاميركي لم يتجاوز حدود الكلام والتصاريح. والواضح انّ موسكو تدرك انّ زمن التسويات الاميركية في لبنان لم يحن بعد.

ويسمع زوار موسكو لوماً روسياً بدرجة اولى لرئيس الجمهورية ومعه رئيس «التيار الوطني الحر» لعدم تسهيل الولادة الحكومية، وبدرجة ثانية للفريق السنّي الذي يتولّى مهمة المواجهة مع قصر بعبدا، لأنّه يقدّم الذرائع المجانية لمنع الولادة الحكومية.

وفي التشريح الروسي ايضاً، انّ «حزب الله» لا يقوم بأي جهود فعلية وحقيقية لإنجاز التسوية الحكومية، فهو مستفيد من استمرار هذا الوضع، وأن تبقى المشكلة مسيحية - سنّية. أضف الى ذلك، انّ تفاقم الأزمة يضاعف من الحاجة لـ»حزب الله» بانتظار التحرّك الاميركي الجدّي باتجاه لبنان.

ووفق القراءة الروسية، فإنّ وليد جنبلاط وسمير جعجع، صحيح انّهما يقفان خارج حلبة الصراع، لكنهما يتحمّلان مسؤولية عدم المبادرة والعمل على ايجاد الحلول والبحث عن ثغرة في الجدار السميك.

ووفق ما تقدّم، لا تبدو القراءة الروسية للأزمة الحكومية اللبنانية متفائلة، لا بل على العكس.

ومن المفترض ان تكون موسكو تدرك جيداً التشابك الكبير ما بين الخيوط الاقليمية ومشاريع إعادة انتاج خارطة نفوذ سياسية جديدة والخيوط الداخلية، بدءاً من الازمة الحكومية والرسائل النارية في الجنوب.

ولا بدّ ان تكون قد قرأت الدعوات المطالبة بتعديل الدستور والذهاب الى الجمهورية الثالثة مع صياغة دستور جديد. ذلك أنّ ثمة كلاماً يتردّد في الكواليس حول صياغة نظام سياسي جديد يرتكز على المثالثة، وجاء موقف رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل حول المداورة في الرئاسات الثلاث ليعزز هذا الكلام.

لكن الاوساط الروسية تنقل بكثير من الوضوح، بأنّ ثمة اجماعاً دولياً على ضرورة حماية الدور المسيحي في لبنان مستقبلاً، وبالتالي، فلا حظوظ لموافقة دولية على ولادة صيغة سياسية جديدة ستدفع بالمسيحيين الى الهجرة النهائية والكاملة من لبنان. ويعتقد كثيرون، انّ ديبلوماسية الفاتيكان الصامتة ولكن الفعّالة جداً، نجحت في صياغة موقف دولي جامع لحماية الدور المسيحي في لبنان. ولا شك انّ موسكو تدرك بأنّ الحل في لبنان بحاجة لتسوية كبرى تبادر بها واشنطن، وتشمل روسيا وايران والسعودية اضافة الى فرنسا، التي ورغم الخسائر التي تتكبّدها منذ اعلان ايمانويل ماكرون عن مبادرته، فإنّ دورها سيكون اساسياً اليوم وغداً. المشكلة انّ برنامج الاستحقاقات اللبنانية مزدحم وبدأ يقترب، بدءاً من الاستحقاق النيابي، الذي تشدّد موسكو على وجوب اجرائه في موعده ومن دون اي تأجيل، اضف الى ذلك الاستحقاق الرئاسي، مع العلم انّ موسكو تشدّد وتؤكّد بأنّها لا تدعم اي مرشح رئاسي حتى الآن.

فما يهمّها بدرجة اولى حماية الساحة اللبنانية من اي اضطرابات قابلة لأن تحصل وتتوسع، وهي تدعم الجيش اللبناني رغم مستوى التعاون المنخفض معه، لأنّه صمام أمان، وكذلك ضامن وحدة لبنان وعدم انزلاقه في متاهات تفتيتية.

ويعترف المسؤولون الروس، بأنّ الحلول لملف النازحين السوريين في لبنان لا يزال مؤجّلاً، وقد يمرّ الكثير من الوقت قبل ايجاد الحل المطلوب لهم، ولكن مع إصرارهم بأنّ تأخّر الحل لن يعني ابداً توطينهم في لبنان.

وفي المحصلة، فإنّ ما يمكن استنتاجه من الموقف الروسي، بأنّ الازمة في لبنان ستستمر وتتفاقم، طالما انّ واشنطن لم تتحرّك بعد.

في المقابل، وعند الجانب الآخر من الكرة الارضية، بدأت المؤشرات الاميركية تظهر حول بداية تحرّك قريب. فتخصيص جلسة استماع للجنتي العلاقات الخارجية في مجلسي الشيوخ والنواب حول الوضع في لبنان، بدأت ظروفه تنضج، بعد اتصالات حصلت مع ادارة جو بايدن. وتتوقع مصادر ديبلوماسية اميركية ان تتحرك الامور فعلياً باتجاه لبنان مع انتهاء العطلة الصيفية نهاية هذا الشهر، وعودة الحركة الى الدوائر الاميركية مع الدخول في شهر ايلول.

وتتحدث هذه الاوساط عن حركة على مستويين: الاول من خلال ما سيصدر من توصيات عن لجنتي العلاقات الخارجية في مجلسي النواب والشيوخ، طبعاً بالتفاهم بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري وبالتنسيق مع الادارة الاميركية.

والثاني من خلال المشاورات الجارية لإعداد لائحة جديدة من العقوبات ستشمل على وجه الخصوص بعض من وردت اسماؤهم في ملف انفجار مرفأ بيروت.

وتلفت هذه الاوساط، الى التقرير الصادر عن منظمة «هيومن رايتس»، والذي أُعلن عشية الذكرى السنوية الاولى لانفجار الرابع من آب، والذي تضمن العديد من الاسماء. وهذا ما شكّل تلويحاً أولياً لبعض الاسماء التي ستشملها العقوبات. لكن لا يزال امام اعلان هذه العقوبات العديد من العناصر والظروف التي لم تكتمل بعد.

لكن المتعارف عليه، انّ ورقتي العقوبات ولجنتي العلاقات الخارجية، تشكّلان منصّة انطلاق للدخول في المسار التفاوضي للوصول الى انجاز التسوية المطلوبة في لبنان. لكن لا بدّ من التكرار مرة جديدة بأنّ الظروف لم تكتمل بعد.