فيما لا يزال ​لبنان​ بلا ​حكومة​ أصيلة منذ عامٍ كامل، وعلى وقع "التشاؤم" الذي عاد ليطغى على أجواء المشاورات، وكأنّ لا شيء مستعجلاً على الإطلاق، "كادت" الحرب تقع جنوب لبنان الأسبوع الماضي، على وقع غاراتٍ إسرائيلية غير مسبوقة منذ حرب تموز، وعملية انتقامية صاروخيّة لـ"حزب الله" في قلب مزارع شبعا.

"كادت" الحرب تقع، لأنّها، في الظروف العاديّة، كان يمكن أن تكون نتيجة "بديهيّة" لـ"تسخين" الأجواء الذي وقع، ولو أنّ الهدف من هجوم "حزب الله"، وفق ما يؤكّد قادته، كان تثبيت قواعد الاشتباك، وردع الإسرائيليين، لا جرّ البلاد إلى حربٍ يقول إنّه لا يريدها ولا يسعى إليها، ولكنّه جاهزٌ لها متى فُرِضت عليه، وضامنٌ للانتصار فيها.

يقول البعض إنّ "تكتيك" هجوم "حزب الله" القائم على ضرب "أرض مفتوحة" جاء انسجامًا مع هذا الهدف، وتفاديًا لوقوع خسائر يمكن أن تُفسّر على أنّها "خطأ في الحسابات"، فيما يرى البعض الآخر أنّ "رهانه" أولاً وأخيرًا كان على "عجز" إسرائيل عن الدخول في حرب ميدانيّة في الوقت الراهن، في ظلّ أزماتها الداخليّة المتشابكة.

لكنّ "الحرب" التي لم تقع ميدانيًا، قابلتها "حروب" بالجملة، لا يُعرَف على وجه الدقّة إن كان وصفها بـ"الصغيرة" جائزًا، بدءًا من حادثة شويّا التي حوّلتها بعض وكالات ​الأنباء​ إلى "الحدث" بحدّ ذاته، باعتبارها مثّلت "تحدّيًا نادرًا" لنفوذ "حزب الله"، إلى عظة البطريرك الماروني ​بشارة الراعي​، التي أعادت فتح النقاش حول مركزيّة قرار "الحرب والسلم".

ولا شكّ أنّ العاملَين ثبّتا مرّة أخرى، وجود "انقسام" فعليّ في الداخل اللبناني، حتى على ما كانت تُعتبَر "ثوابت" في الماضي غير البعيد، علمًا أنّ هناك من يجزم بأنّ هذا "الانقسام" الذي كان سابقًا بين مؤيّدي ورافضي مبدأ ​المقاومة​، اتّسع اليوم ليشمل شريحة واسعة من المؤيّدين، التي باتت تطرح علامات استفهام عن ارتباطات إقليمية وغيرها.

ولعلّ حادثة شويّا جاءت لتفضح هذا "الانقسام" على مرأى من ​العالم​ كلّه، ولو أنّ هذه الحادثة برأي كثيرين، نالت "تضخيمًا" يفوق بأشواط فحوى "رسالتها" التي قد تكون "فرديّة" إلى حدّ بعيد، علمًا أنّ "اضطرار" الأمين العام لـ"حزب الله" ​السيد حسن نصر الله​، وفق ما قال، إلى تناول هذه المسألة في خطابه الأخير، لا يُعتبَر "تفصيلاً" في هذا السياق.

وإذا كانت هذه الحادثة حملت بين طيّاتها "مفاجأة" للكثيرين، بدليل وصفها من قبل بعض وكالات الأنباء العالمية بـ"النادرة" أو "غير المسبوقة"، فإنّ مواقف البطريرك الراعي التي صدرت بعيد أحداث الجنوب، لم تأتِ خارج سقف التوقّعات على الإطلاق، وإن استتبِعت بحملة واسعة، أخرجتها عن سياق الذي كان يمكن أن يكون عاديًا وطبيعيًا.

ويشير كثيرون في هذا السياق، إلى أنّ البطريرك الراعي الذي يقود منذ فترة الخطاب المناهض لـ"حزب الله" بشكلٍ أو بآخر، بدءًا من مشروع "حياد لبنان" الذي لا يخفى على أحد أنّه "يستفزّ" جمهور الحزب، كان لا بدّ أن يرفض هجوم "حزب الله" الأخير، انسجامًا أيضًا مع موقفه التاريخيّ الرافض لما يصفها البعض بـ"المغامرات العسكريّة".

ولا يشذّ تركيز الراعي على مسألة قرار "الحرب والسلم"، ورفضه أن يكون محصورًا في يد جهة واحدة، عن هذه ​القاعدة​، علمًا أنّ هذه الإشكاليّة لطالما شكّلت "لبّ الصراع" بين "حزب الله" وخصومه، استنادًا إلى أنّ مثل هذا القرار المصيريّ والمفصليّ، والذي يؤثّر على البلاد كلّها، لا بدّ أن تتحمّل مسؤوليّته ​الدولة​ عمومًا، لا أن تُفاجَأ به كغيرها.

كلّ ما سبق يؤكد أمرًا واقعًا لا جدال حوله، وفق ما يرى كثيرون، وهو أنّ "لا إجماع" على مبدأ المقاومة، أو بمعنى أدقّ، على ماهيّة دور "حزب الله" وحساباته، وهو ما اعترف به الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله بشكل أو بآخر في خطابه الأخير، حين "دحض" مقولة الالتفاف حول المقاومة قبل العام 2000، ليؤكد أنّ الانقسام عليها "تاريخيّ".

إلا أنّ ما قاله نصر الله بدا في وادٍ، وردود مناصريه ومؤيّده "الافتراضيّين" في وادٍ آخر، ليظهر مرّة أخرى وجود مشكلة جوهريّة، بل خلل حقيقيّ، في تلك "الأبواق" الناطقة باسم الحزب، سواء افتراضيًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو حتى بعض "النخبة" التي تتناوب على الإطلالات الإعلامية، و"تتبارز" على إثبات "الولاء".

هكذا مثلاً، لم يتوانَ البعض عن التصويب على بلدة شويّا على خلفية الحادثة التي وقعت فيها، ولم يجد أيّ "إساءة" في تغيير اسم البلدة، لوضع "كريات" قبلها، أسوةً ببعض المناطق الإسرائيليّة، في أمرٍ بدا "مهينًا" للكثيرين، و"مسيئًا" لحزب حاول إقناع الرأي العام بأنّ ما حصل كان أصلاً فرديًّا، ولا يعبّر عن أبناء البلدة، فضلاً عن كونه يغذّي النعرات ​الطائفية​ والمذهبيّة.

وقد بدت هذه "النعرات" أيضًا جلية في الخطاب المواجِه للبطريرك الماروني، والذي لم يتردّد بعض "مناصري" حزب الله، الذين يسيئون إليه مبدئيًا أكثر من خصومه، في "تخوينه"، وهو ما تجلّى ببعض "الشعارات" التي تمّ تبنّيها افتراضيًا، وعلى رأسها "راعي الاستسلام"، مع ما انطوت عليه من تصويب مباشر على الرجل، لأنّه عبّر عن رأي، وقال إنّه "تعب" من الحرب.

قد لا يكون هذا الموقف معبّرًا عن قيادة "حزب الله"، ولكنّ الصمت عنه يثير الاستغراب، وربما الريبة، علمًا أنّها ليست المرّة الأولى التي يُواجَه فيها خطاب مناهض بالتخوين بكلّ بساطة، رغم أنّ التجربة أثبتت "عقم" هذا الخطاب، وأنّه يؤدّي في الأغلب إلى ردّ فعل "عكسيّ"، بحيث يتعاطف الكثيرون مع "​ضحايا​" الحملات "التخوينية"، بمُعزَلٍ عن كلّ شيء.

باختصار، لا شكّ أنّ الانقسام حول "حزب الله" ليس جديدًا، بشهادة أمينه العام، الذي يرفض كلّ مقولات "الإجماع السابق"، لا قبل حرب تموز وبعدها فحسب، بل حتى قبل تحرير عام 2000، انقسام سيحضر "طيفه" في أيّ مواجهة عسكرية مقبلة، مهما كبرت أو صغرت، ومواجهته لا يمكن أن تتمّ على طريقة "الأبواق" الحاليّة، بما تحمله من شعبويّة غير مجدية!.