أثارت دعوة البطريرك الماروني مار بشارة بُطرس الراعي ​الجيش​ والقوّات الدَوليّة إلى "السيطرة على كامل أراضي الجنوب، وتنفيذ دقيق للقرار 1701، ومنع إطلاق صواريخ من الأراضي ال​لبنان​يّة"، سلسلة من الرُدود الرافضة لكلامه والمُتهجّمة عليه، وسلسلة أخرى مُؤيّدة لكلامه وداعمة له. ويُمكن القول إنّ كلام الكاردينال الراعي الذي تحدّث عن أنّ اللبنانيّين "سئموا الحرب والقتل والتهجير والدمار"، وعن أنّه لا يُمكن القُبول "بإقدام فريق على تقرير السلم والحرب خارج قرار الشرعيّة، والقرار الوطني المَنوط بثلثيّ أعضاء الحُكومة وفقًا للمادة 65..." ظهّر الإنقسام اللبناني إلى أقصى درجة. فكيف يُمكن أن يتطوّر هذا الأمر؟.

لا شكّ أنّ الإنقسام اللبناني بشأن كامل تركيبة "​حزب الله​" العسكريّة والأمنيّة ليس بجديد، لكنّه بلغ أخيرًا مرحلة مُتقدّمة أكثر، لأنّ الخلاف لم يعد مَحصورًا بمسألة السلاح خارج القوى الشرعيّة اللبنانيّة، ولا حتى بمسألة إنفراد "الحزب" في تقرير السلم والحرب للبنان ولكلّ اللبنانيّين، من دون المُرور بأيّ سلُطة تشريعيّة أو تنفيذيّة رسميّة، بل صار مُرتبطًا بنمط حياة جديد فُرض فرضًا على اللبنانيّين، الأمر الذي أثار حفيظة الكثيرين منهم، وزاد من نقمتهم. صحيح أنّ الواقع المُزري على مُختلف الصُعد الذي وصلنا إليه في لبنان حاليًا، يرتبط بتراكم سياسات إقتصاديّة وماليّة فاشلة، وبعمليّات فساد وهدر تمتدّ على مدى العشرات من السنوات، وبارتدادات سوء الإدارة ومُحاولة طمس الحقائق، إلخ. لكنّ الأصحّ أنّ توريط لبنان في صراعات إقليميّة ودَوليّة، وأخذه عُنوة إلى محور إقليمي-دَولي يُجاهر بالعداء للولايات المُتحدة الأميركيّة ولكثير من الدول الغربيّة والعربيّة، زاد من حدّة الإنهيار وضاعف سرعته، وجعل لبنان يُترَك لمصيره، من دون أيّ مُساعدة خارجيّة ماديّة أو ماليّة تُذكر.

بالنسبة إلى مُؤيّدي "حزب الله" في لبنان، إنّه الثمن الطبيعي الذي يجب دفعه لعدم التفريط بالحقوق الوطنيّة، أكان على مُستوى الأرض والحدود والمياه والثروات الطبيعيّة، أو على مُستوى العقيدة والسياسات العامة والتموضع الايديولوجي. وبحسب هؤلاء، يجب تحمّل الضُغوط الخارجيّة-مهمّا إشتدّت، حفاظًا على الحُقوق وعلى الكرامة وعلى ما يعتبرونه "مكاسب" محور "المُقاومة والمُمانعة" الذي حقّق برأيهم إنتصارات مُهمّة في الإقليم، وقُوّته في نموّ مُستمرّ بوجه "غطرسة ​إسرائيل​" ومن خلفها الولايات المُتحدة الأميركيّة والدُول التي تدور في فلك هذه الأخيرة.

في المُقابل، وبالنسبة إلى رافضي "أي سلاح غير شرعي"-تحت أيّ مُسمّى أو عنوان، إنّ لبنان يدفع ثمنًا باهظًا نتيجة تورّطه في صراع إقليمي-دَولي كبير، لا يجب أن يكون جزءًا منه أصلاً، فكيف بالحري أن يكون رأس حربة فيه! وبحسب هؤلاء، إنّ الحُقوق تُحفظ بالنأي بالنفس عن الصراعات، وبالحياد الإيجابي بعيدًا عن كل ما يُمكن أن يُضرّ بمصلحة لبنان وشعبه، وليس عبر خوض سلسلة من المُواجهات والحروب التي لا تنتهي، نيابة عن ​إيران​، وخدمة لمصالحها، على وقع تطوّر مُفاوضاتها مع الغرب! وكذلك، الكرامة لا تُحفظ بالسلاح وبالصواريخ فقط، ولكن بتأمين الحياة الكريمة لأبناء الوطن. فالعجز عن توفير المأكل والمشرب والأمن الغذائي ككل، والإستشفاء والطبابة والدواء والتعليم، وخدمات الكهرباء والمياه والإتصالات، إلخ. لا يقلّ ذلًا وهوانًا من فقدان جزء من الأرض أو من التعرّض لخرق أو إنتهاك للسيادة!.

وبحسب تجارب السنوات الماضية، الإنقسام الذي ظهّره كلام البطريرك الراعي العالي السقف، غير قابل للعلاج، وأقصى ما يُمكن حُدوثه هو مُحاولة تخفيف التشنّجات السياسيّة والطائفيّة التي حفلت بها الردود على كلام "سيّد بكركي"، والردود على هذه الرُدود! ولا شكّ أنّ لبنان صار بحاجة لأكثر من مُجرّد "إستراتيجيّة دفاعيّة"، لم يبذل المَعنيّون أيّ جهد لتوحيد الرؤى بشأنها، حيث صار من الواجب العمل على إيجاد أرضيّة مُشتركة لتقبّل الرأي والرأي الآخر، ولتقبّل فكرة النقاش والحوار، لأنّه بغير ذلك ستبقى النار تحت الرماد، وسينمو الحقد وستتوسّع الكراهيّة المكبوتة، وهو ما تُرجم بأكثر من مثال في الأيّام القليلة الماضية، إن عبر مواقف إعلاميّة صاخبة، أو حتى عبر حوادث أمنيّة مُؤسفة على الأرض، من خلدة وُصولاً إلى شويّا، وما بينهما.

في الختام، نعم، الكثير من اللبنانيّين يدعمون "حزب الله"، وهم على إستعداد لتحمّل كل شيء من أجله! لكن في المُقابل، الكثير من اللبنانيّين لا يدعمونه، وهم ليسوا على إستعداد لتحمّل أيّ شيء من أجله! والإستقواء بالسلاح لقمع هؤلاء الأخيرين، وإعتماد أسلوب التهجّم لكبح أصواتهم، لن يُجدي نفعًا، والمرحلة المُقبلة ستُثبت ذلك...