تختمُ الكنيسةُ الأُرثوذكسيَّةُ سنَتَها الليتورجِيَّةَ بِعيدِ رُقادِ والِدَةِ الإلهِ في ١٥ آب، لِتبدأَ بَعدَها سنةٌ لِيتورجيَّةٌ جديدةٌ في الأوَّلِ مِن شَهرِ أيلول، ويكونُ الثامنُ منه، تَذكارُ ميلادِ العذراءِ مَريمَ، أوَّلَ عيدٍ سَيديّ فيها.

تَختُمُ الكنيسةُ سنتَها إذًا بِرُقادٍ وتفتَتِحُها بِولادَةٍ، لأنَّ بعدَ الرُّقادِ انتِقالًا إلى الحياةِ الأبَدِيَّةِ، ووِلادَةً جَديدَةً في الأحضَانِ السَّماوِيَّة.

أُمُّ الحَياةِ رَقَدَت كما يَرقُدُ كُلُّ واحِدٍ مِنّا. ولكنَّ هذا الرُّقادَ ما هُوَ إلّا بِدايَةُ اللانِهايَة.

ففي لَحظَةِ رُقادِها، كانَتِ المَلائِكَةُ حاضِرةً، كذلِكَ الرُّسُلُ الّذينَ أتَوا مِن كُلِّ أقطارِ المَسكُونة. الجميعُ مُتَحَلِّقون حولَ الجُثمانِ المَهيبِ، لِيَبدأَ الاحتِفَال، احتِفالٌ إلهيٌّ مُلوكِيٌّ للمَلِكَة.

هذا المَحفِلُ البَهيُّ لا يُمكِنُ أن يكتَمِلَ إلّا بِحُضورِ المَلِكِ نفسِه، وها هُوَ صَاحِبُ الجَلالَةِ الرَّبُّ يَسوعُ المَسيحُ، يَقِفُ مُنتَصِبًا في الوَسَطِ، حامِلًا بينَ يَديهِ رُوحَ والِدَةِ الإلهِ الطَّاهِرة. أُمُّ الحَياةِ في أَحضَانِ مَصدَرِ الحَياة.

أن نَعبُرَ إلى أحضان الرب هو ما يَنتَظِرُهُ الرَّبُّ مِنّا، أي أن نَأتِيَ إليهِ كما أَتى هُوَ إلينا. ومِنَ المُفتَرَضِ أن يكونَ هذا مُبتَغانا وهَدَفَنا الأوَّلَ، وأن نَضَعَه نُصبَ أَعيُنِنا، كي لا نَحيدَ عنهُ، فنَتَلهّى ونُضَيِّعَ الطَّريق.

تُحاوِلُ الكَنيسَةُ أن تُذَكِّرَنا بهذا الأمرِ في إنجيلِ عِيدِ رُقادِ السيِّدَة، إذ يُقرَأُ على مَسامِعِنا ما قالَهُ يَسوعُ لِمَرْثَا، عندما كان في مَنزِلِ لَعازر: «مَرْثَا، مَرْثَا، أَنْتِ تَهْتَمِّينَ وَتَضْطَرِبِينَ لأَجْلِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ»، وأكمَلَ: «وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا».

قصَدَ الرَّبُّ بِذلِكَ أُختَها مريمَ «الَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ»(لوقا ٤١:١٠-٤٢).

وهُنا بَيتُ القَصيد.

فَليَستَبدِلْ كُلٌّ مِنَّا اسمَ مرتا باسمِهِ، ويَعتَبِرْ كَلامَ الرَّبِّ مُوجَّهًا إليه. ولنسألْ عِندَها أَنفُسَنا ما هُوَ أوَّلُ اهتماماتِنا في الحياة؟.

وأيضًا فَلنسألْ بِجُرأةٍ، مَن نَجلِسُ عِندَ قدَمَيهِ ونَسمَعُ كلامَه؟ يَأتينا الجَوابُ في خاتِمَةِ النَّصِّ الإنجيليّ الخاصِّ بِهذا العيد: "وَفِيمَا هُوَ (الرب) يَتَكَلَّمُ بِهذَا، رَفَعَتِ امْرَأَةٌ صَوْتَهَا مِنَ الْجَمْعِ وَقَالَتْ لَهُ: «طُوبَى لِلْبَطْنِ الَّذِي حَمَلَكَ وَالثَّدْيَيْنِ اللَّذَيْنِ رَضِعْتَهُمَا». أَمَّا هُوَ فَقَالَ: «بَلْ طُوبَى لِلَّذِينَ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ وَيَحْفَظُونَهُ».

قَولُ الرَّبِّ هذا بِمثَابَةِ خَارِطَةِ الطَّريقِ لِتَحقيقِ هدفِنا، لأنَّ ما يَقصِدُهُ بِالسَّماعِ هُوَ الإصغَاءُ بِاهْتِمامٍ وانْتِباهٍ.

مريمُ سَبقتِ الجَميعَ في الإصغاءِ لِكَلِمَةِ الرَّبِّ وحِفظِها والعَملِ بِها، إذ قالت للمَلاك: «هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ». وهي أوّلُ مَن يُطَبَّقُ عليها كلامُ يَسوع.

تُرى ما هو النَّصيبُ الصَّالحُ الّذي تَكلَّم عليهِ الرَّبُّ؟ كلِمَةُ «نصيبMeriza » في أصلِها اليُونانيّ، تعني أيضًا الشَّرِكَةِ، الحِصَّة، وقد وَرَدَت في رِسالةِ بُولُسَ الرَّسولِ إلى أهل كولوسي، بِشكلٍ واضِحٍ جِدًّا، بِحيثُ يَقول: «شَاكِرِينَ الآبَ الَّذِي أَهَّلَنَا لِشَرِكَةِ Meriza مِيرَاثِ الْقِدِّيسِينَ فِي النُّورِ، الَّذِي أَنْقَذَنَا مِنْ سُلْطَانِ الظُّلْمَةِ، وَنَقَلَنَا إِلَى مَلَكُوتِ ابْنِ مَحَبَّتِهِ»(كولوسي ١٢:١-١٣).

وطبعًا وَحدَهُ الرَّبُّ يسوعُ يستطيعُ أن يُعطِيَنا هذا النَّصيبَ وهَذهِ الشَّرِكَةَ، إذا جَاهَدنا الجِهادَ الحَسَن.

أمَّا كَلِمَةُ صالح Agathos، التي تَطوَّرَت معَ الزَّمن، فقد كانت تُطلَقُ عِندَ اليُونانيّين على المُواطِنِ الصَّالِحِ والمَسؤولِ الّذي يَخدِمُ مَدينَتَهُ بِنَزاهَةٍ وتَفانٍ، كما وَرَدَت في العَهدِ القَديمِ «صَالِحٌ هُوَ الرَّبُّ. حِصْنٌ فِي يَوْمِ الضَّيقِ، وَهُوَ يَعْرِفُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ»(ناحوم ٧:١).

وهذا ما قَالَهُ يَسوعُ للشَّاب الغَنيّ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا. لَيْسَ أحَدٌ صَالِحًا إلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ اللهُ»؟(متى ١٧:١٩). وقَصدَ الرَّبُّ أن يقول له: هل تعي أنَّ الذي تتكَلَّمُ مَعَه هو اللهُ نفسُه المُتَجَسِّد؟.

بِالعَودَةِ إلى النَّصيبِ الصَّالِحِ الذي لا يُمكِنُ لأحَدٍ أن يَنتَزِعَهُ مِمَّن حَصَل عليه، فالمقصودُ به الميراثُ الأبَدِيُّ الذي أعدَّهُ اللهُ لنا قَبلَ إنشاءِ العالَم، وما رُقادُنا إلّا عُبورٌ إليهِ، إلى الحَياةِ الأبَدِيَّةِ، إلى عَدَمِ المَوت.

وإذا سألنا ما هي مِيزَةُ اللّاهُوتِ الأُرثُوذُكسيّ، يأتي الجَوابُ «العُبورُ أي القِيامَة».

هذا يتجلَّى بوضوحٍ في الليتورجية، والتّراتيل، والفَنّ الكنَسي، حتَّى في تَقاريظِ جُنّازِ المَسيح، تَعلو مُناشَدَةُ القِيامة، فَيَخالُ المُؤمِنُ نفسَهُ في عُرسٍ ولا أجمَل. فالتَّركيزُ دائِمًا على «اللامَوت»، هذا الذي ما زال الكثيرون يعتبرونه مَجهولًا Inexiplicite، أمّا عِندَنا فهو حَياةٌ، ونحن موقِنون ذلكَ تمامًا.

وقد استَوقَفَني في الفنِّ الكَنَسيّ، ما تَرَكَهُ المَسيحيّونَ مِنَ القُرونِ الأُولى، في تَصويرِهم للحَياةِ الأبَدِيَّةِ، باستِعمالِهم النَّخلَةَ الّتي تُدعَى بِاليُونانِيَّة Phenix، وتعني أيضًا طائرَ الفِينيق، الذي يُولَدُ مِن رَمادِ احتِراقِ جَسدِهِ، وكذلك تعني اللّونَ الأُرجواني.

يَشرَحُ Tristan Frédérick، الأستاذُ المُعاصِرُ والمُتَخصِّصُ في الفَنَّ الكَنسيّ في القرون الأولى، يشرَحُ في كتابه Les Premières Images Chrétiennes، كيف رَسَمَ المسيحيون النَّخلَةَ مَعَ ثِمارٍ مُتَدلّيَةٍ مِنها، وذلك ليُشيروا إلى الانتِصارِ على المَوتِ، وإلى الحَياةِ الخَالِدَةِ بِالرَّبِّ القائِمِ والمُنتَصِر. وهي كانت تَرمُزُ عِندَ اليُونانيّينَ والرُّومان، إلى الانتصارِ في الحُروبِ، فها هي ترمُزُ معَ الرَّبِّ إلى الانتِصارِ على الخَطيئة.

ويُعلِنُ المَزمُورُ الثَّاني والتُّسعونَ هذهِ الآيةَ الرَّائِعَة: «اَلصِّدِّيقُ كَالنَّخْلَةِ يُزْهِر»(مزمور ١٢:٩٢).

إنَّ تَشبيهَ الصِّدِّيقِ بِالنَّخلَةِ ما هُوَ إلّا إشارَةٌ لِخُضرَتِها الدَّائِمَةِ وصَبرِها وانتِصارِها على عَوامِلِ الطَّقس، وهي شَجَرةٌ مُستَقيمَةٌ ومُرتَفعة، كانُوا قَديمًا يَستَظِلُّونَ بِظِلِّها.

وَهَكذا المُؤمِنُ مَدعُوٌّ لِيَكونَ مُستَقِيمًا وصَبُورًا، فيُثمِرُ ويَستَظِلُّ بِهِ كَثيرُون.

ومَن أَحَقُّ بهذا التّشبيهِ مِن وَالِدَةِ الإلهِ لِصَبرِها واستِقامَتِها وحنانها، وقد أزهرت بأحلى ما يكون. فثَمرَة بَطنِها هو نَصيبُها الصَّالِح، لأن يَسوعُ هُوَ النَّصيبُ الصَّالِح.

وهذا ما يَنتَظِرُنا إن أحسنَّا الإصغاءَ لِكَلِمَةِ اللهِ وعَمِلنا بِها.

إلى الرب نطلب.