بعد أيام فقط على الذكرى السنوية الأولى لجريمة تفجير مرفأ بيروت، التي لا تزال دون محاسبة ولا مساءلة ولا من يحزنون، بفضل "حصانات" يرفض أصحابها رفعها مهما كان الثمن، جاءت "فاجعة" عكار لتضاعف الجرح، وتعمّق الألم، وتعيد إلى الأذهان "وجعًا" يتخطّى كلّ الصعاب الأخرى، في بلد "المآسي" التي لا تنتهي.

لعلّ "المشتركات" بين جريمتي مرفأ بيروت وعكار كثيرة، ولو أنّ البعض لا يرى "سبيلاً" للمقارنة، بالنظر إلى بعض "الفوارق" التي قد تكون "جوهرية"، من الحجم إلى الشكل، وطبيعة الاستهداف. لكن، في الحالتين، ثمّة إهمال وفساد قد لا يكون خافيًا على أحد، لكنّه ارتقى لمستوى "الجرم والإثم" وما هو أكثر من ذلك.

في الحالتين أيضًا، ثمّة مشهد "مستفزّ" تختصره "الوقاحة السياسية" بأبشع حللها، إن جاز التعبير، تحت عنوان "التضامن والتعاطف" مع الضحايا، "تعاطف" سرعان ما يتحوّل "تقاذفًا للاتهامات" بين هذا الفريق وذاك، في محاولة لتحصيل بعض المكاسب السياسية الآنية ليس إلا، كما ظهر جليًا في المواقف التي صدرت بعد "جريمة" عكار.

في المبدأ، وبانتظار أن تقول التحقيقات كلمتها الأخيرة، إن قُدّر لها ذلك "يومًا ما"، فإنّ الأكيد أنّ جميع الأحزاب السياسية التقليدية مسؤولة عمّا حصل في عكار، بعيدًا عن "النفور" الذي يسبّبه للبعض شعار "كلن يعني كلن" الذي تبنّاه معارضو السلطة في أكثر من محطّة، ولا سيما في "حراك" السابع عشر من تشرين الأول، الذي "أطفئ" في مهده.

الكلّ مسؤولون، لأنّ "جريمة" تفجير خزان الوقود في عكار لم "تفضح" واقعة تخزين واحتكار المحروقات، طالما أنّ الكلّ يعلم، بالوقائع والأسماء، ما يحصل في هذا الإطار، وصولاً إلى "التهريب"، وقد نشرت وسائل الإعلام في الأسابيع الأخيرة الكثير من المعطيات الملموسة، والتي تحوّل بعضها إلى "إخبار"، قبل أن "يجمَّد" بطبيعة الحال.

يعلم الجميع أيضًا أنّ هذا الملف، كمعظم الملفات الأخرى، يصطدم بحاجز "الحمايات السياسية" العابرة كما هو واضح للاصطفافات السياسيّة التقليديّة، ذلك أنّ القوى السياسية التي سارعت في اليومين الماضيين لتقاذف الاتهامات والمسؤوليات، هي "شريكة" في توفير هذه "الحمايات"، لكن لكلّ منها "جماعتها" التي يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها، لا سيّما مع بدء عدّ عكسي لانتخابات "مفصليّة" بات واضحًا أنّ الكثيرين يتوجّسون منها.

لعلّ هذا بالتحديد ما يفسّر مستوى "الشحن" المثير للدهشة والاستغراب في المواقف السياسية بعد تفجير عكار، وكأنّ إبعاد "كرة النار" يبيح كلّ "المحظورات". هكذا، لم تكن دماء الضحايا قد جفّت بعد، حين بدأ "الاستثمار السياسي" علنًا، عبر بياناتٍ وبيانات مضادة، ذكّرت البعض بتلك البيانات "الاستعراضية" التي كانت تصدر عند "تأزّم" الأمور على خطّ تشكيل الحكومة.

سريعًا، وجّه "التيار الوطني الحر" مثلاً اتهاماته، التي وزّعها بين "تيار المستقبل" الذي اتهمه بـ"حماية" صاحب الأرض والمخزّن ومن يمتّ إليهما بصلة، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي لولا قراره رفع الدعم لما حصل ما حصل، رغم إدراكه أنّ وقائع "التخزين والتهريب" سابقة ولاحقة لهذا القرار الذي "لا بدّ منه" في النهاية، بعيدًا عن "شعبويّة" اللحظة.

وسريعًا أيضًا، وجد تيار "المستقبل" أنّ الردّ "الأمثل" على الاتهامات يكون باتهامات "معاكسة"، يصبح معها التيار "البرتقالي" في قفص الاتهام، قبل أن يعزّزها رئيس الحكومة السابق سعد الحريري بمواقف "تصعيدية" تخاطب ربما "وجدان" جمهوره، قوامها دعوة رئيس الجمهورية ميشال عون إلى "الرحيل"، وتوصيف عهده بـ"عهد جهنّم".

وبين هذا وذاك، وجد "الاستثمار السياسي" مداه، فاستحضر البعض نغمة "التشدّد" في الشمال، وتحدّث البعض الآخر عن وجوب إعلان عكار "منطقة عسكرية"، فيما "استعرض" آخرون قدراتهم "الخطابيّة"، وكأنّ الظرف ملائم ومناسب لها، لكنّ أحدًا لم ينتبه مثلاً أنّ منطقة عكار منسيّة ومهمَّشة، شأنها شأن الكثير من المناطق اللبنانية.

لعلّ ما غاب عن بال الكثيرين ممّن أرادوا "الاستعراض"، ربما من باب "النأي بالنفس" عن المسؤولية، أنّ "المواجهة" ينبغي أن تنطلق من مكان آخر تمامًا، ومن ملفّ تأليف الحكومة بالتحديد، الذي لا يزال "عالقًا" رغم تعميم "الإيجابيات" الكثيرة في الأيام الماضية، بعدما أضحى واضحًا أنّ غيابها لن يؤدي سوى لتكريس ثقافة "المصائب والكوارث".

من هنا، قد يكون الأوْلى من كتابة البيانات وتقاذف الاتهامات، أن يعمل المعنيّون على تكثيف التشاور والتنسيق، لتولد الحكومة اليوم قبل الغد، بعيدًا عن كلّ الشروط والشروط المضادة التي حالت دون ذلك على مدى أكثر من عام، خصوصًا أنّ كلّ "الحصص" أصبحت بلا قيمة فعليّة، في ضوء "الجريمة المتمادية".

لعلّ المطلوب أن يعقد رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي اجتماعًا مغلقًا لا ينتهي سوى بتصاعد "الدخان الأبيض" من قصر بعبدا، بدل الاكتفاء بالاجتماعات العادية والقصيرة والمتفرّقة، خصوصًا إذا ما صحّ ما يُشاع عن "حلحلة" على خط العقد الكبرى، واتفاق "مبدئي" تمّ التوصّل إليه.

تؤكد "فاجعة" عكار مرّة أخرى المؤكّد، وهو أنّ القيادة السياسية في البلاد "قاصرة" عن النظر إلى الناس، كلّ الناس، بمنطق المساواة والعدالة والإنصاف، فكلّ الدماء "ترخص" في سبيل المصلحة السياسية، "مصلحة" تعلو على كلّ التضحيات، وتفضح "تواطؤ" كلّ الأحزاب، ولو تنافست فيما بينها على "الردح والتنظير"!.