أن يَكونَ الإنسانُ سَيِّدًا في المَفهومِ الأرضِيّ لأَمرٌ رَفيعُ المُستوى، ومَقامٌ وسُلطة. وللسَّيدِ عِدَّةُ معانٍ، فهو مَن يَسودُ، وهُوَ المالِكُ، وأيضًا المَلِكُ والحاكِمُ والآمِر. بالمُختَصَر هُوَ مَن تَجِبُ طاعتُهُ. كما تُعطى هذه الصِّفةُ كَتَبجيلٍ واحتِرامٍ كبيرَين.

أمّا المَفهومُ السَّماويُّ فَهو مُرتَبِطٌ بِالخلاصِ الأبَديّ الإلهيّ، لهذا نقول بِأنَّ الرَّبَّ يسوعَ المسيحَ هُوَ السيِّدُ، لأنّه الفادِي والمُخَلِّصُ، وليسَ للمسيحيّ إلّا سيّدٌ واحدٌ، وهو الإلهُ الّذي تَجَسَّدَ مِن أجلِهِ وصُلِبَ عنهُ، وأقامَهُ مَعَه مِن بَينِ الأموَات.

هذا تحديدًا ما خَبِرَهُ تلاميذُ الرَّبِّ وأخبَرُونا إيّاه، فكان اعتِرافُهم بِالمسيحِ كبيرًا، وإيمانُهم بهِ مُجلجِلًا.

ويأتي إنجيلُ هذا الأَحدِ ليُخبِرَنا كيفَ كانَ التَّلامِيذُ في السَّفينةِ، وأحاطَت بِهِم رِيحٌ مُضادَّةٌ تَسبَّبتْ بِأمواجٍ عالِيَةٍ، وكادُوا يَغرَقُون. وقبلَ الفَجرِ، وكانوا قد أمضَوا الليلَ مُحاوِلينَ النجاةِ دون جدوى، تَقدَّمَ إليهم يَسوعُ ماشِيًا على المِياهِ، فاضطَربُوا ظانِينَ أنّه خَيَالٌ، وانتابَهُم الهلَعُ وصَرَخُوا مِنَ الخَوف. عندها كلَّمَهُم يسوعُ قائلًا: «تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا». فما كانَ مِن بُطرُسَ إلّا أن طَلَبَ إلى الرَّبِّ أن يأمُرَهُ بأن يَأتِي إليهِ سَيرًا على المِياهِ، إن كان هُوَ حقًّا الرَّب. وهكذا كان. ولكِنَّهُ سُرعانَ ما تَغَلَّبَ عليهِ الخَوفُ مَعَ أنَّهُ لَمسَ خَلاصَ الرَّب، فبدأ يَغرَق. عِندها مدَّ يَسوعُ له يَدَهُ وأنقَذَهُ ووبَّخَهُ قائلًا: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ؟». ولمَّا دخلا السَّفينَةَ معًا سَكَنَتِ الرِّيحُ. "وَالَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ جَاؤوا وَسَجَدُوا للرَب قَائِلِينَ: «بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللهِ!»(متى ٢٢:١٤-٣٣).

هَذِهِ الحادِثَةُ تَكشِفُ بِوُضوحٍ جَبرُوتَ يَسوعَ، وسُلطتَهُ على المَسكُونَةِ جَمعَاء، ولكن بِالمُقابِلِ هناكَ أسئلةٌ عَديدَةٌ طُرِحَت على مَرِّ التَّاريخ، وما زالت، حَولَ خلاصِ اللهِ للبَشَر، ويقولُ أصحابُها إنَّهُم لم يَحصَلُوا على الجَوابِ الشَّافي والمُقنِعِ، وقد شَكَّلَ هذا الأمرُ عَثَرةً كَبيرَةً لِكثيرٍ مِنَ العُلَماءِ والبَاحِثِينَ والفَلاسِفَةِ والأُدبَاءِ والمُفَكِّرينَ وغيرِهِم مِنَ النَّاس.

وها الفِيزيائي العَبقريّ أنشتاين، قد وَقَعَ في حَيرَةٍ كَبيرةٍ، إذ بالرُّغمِ من تَفوُّقِهِ العِلميّ واكتِشافاتِه، لم يُدرِكْ أمرَ خَلاصِ اللهِ للبَشَر، مع أنَّهُ يُقِرُّ بِقُوَّةٍ خَفيَّةٍ جَبَّارَةٍ مُنَظَّمَةٍ للكَونِ، ومِمّا سألَهُ: كيفَ يَستَطيعُ اللهُ أن يَهتَمَّ لأمرِنَا ونَحنُ نَعيشُ على كَوكَبٍ صَغيرٍ، وَسطَ عَدَدٍ لا يُحصَى مِنَ الكَواكِبِ والمَجرَّاتِ؟ وإذا كان فِعلًا يَهتَمُّ، لماذا إذًا لا يُنقِذُ النَّاسَ مِنَ الحُروبِ والكَوارِثِ، وحوادِثَ أُخرى؟.

لِماذا يَمُوتُ أطفالٌ ومُسِنّون وأَبرياءُ نَتيجَةَ إجرامِ غَيرِهم؟ لماذا لا يَقضي اللهُ على الشَّرِّ الّذي يَستَفحِلُ في البَشَرِيَّةِ؟ ولماذا لا يُزيلُ الأمرَاضَ الّتي تَفتُكُ بِالنَّاس؟.

لِنَكن أيضًا صَريحِينَ ونَعتَرِفْ: كَم مِن مَرَّةٍ طَرَحنا الأسئلَةَ ذاتَها على أنفُسِنا؟ وكم مِن مَرَّةٍ عاتَبْنا اللهَ لِعَدَمِ تَدَخُّلِهِ، معَ أنَّنا نَاشَدناهُ بِقُوّة؟ وكم مِن أُناسٍ طَلبوا نَجدَتَهُ ولم يَتدَخَّلْ، فنالُوا حتفَهُم؟ هُناكَ مَن يُؤمِنُ بِالقَضاءِ والقَدَرِ و"المَكتُوب ما مِنهُ مَهرُوب"، وبِالتَّالي يُعَزّي نفسَهُ بِذَلِك، وهُناكَ مَن يَقُولُ، هَذِهِ أمورٌ لا دَخلَ للهِ فِيها. وهناكَ مَن لا يُؤمِنُ بِوُجودِ اللهِ ويعتبرُ ما يحصُلُ مِن طَبيعَةِ هذِهِ الحَياة لا أكثر.

أمَّا بِالنِّسبَةِ لنا نَحنُ المَسيحيّينَ، فما هُوَ الجَوابُ الصَّحيح؟.

يَقولُ الآباءُ القِدّيسُونَ إنَّ كُلَّ شيءٍ يَجري بِسَماحٍ مِنَ اللهِ، وبِعِلمِهِ، وقد يَتدَخَّلُ وقد لا يَتَدَخَّل. طبعًا هُوَ ليسَ عشوائيًّا، ولَكِن عندَه تَدبيرُهُ الخاص. ويجبُ ألّا نَنسى بِأنَّنا نَقولُ إنَّ المَسيحَ هو الضَّابِطُ الكُلَّ والكُلّيُ القُدرةِ Pantocrator، ولا شَيءَ يصعُبُ عليه. ونحن نكتُبُ أيقوناتِهِ بِشكلٍ كَبيرٍ في قُبَّةِ الكَنيسَةِ مِنَ الدَّاخِلِ تعبيرًا عن ذَلِك.

ولكن هل صَحيحٌ أنَّ اللهَ لم يتدخّلْ لإنقاذِ إنسانٍ ما أو شَعبٍ ما، أو لم يَحُلْ دون وقوعِ كارِثَةٍ ما، أفلا يكون ذلك تخلٍّ مِن الله أو غضبًا أو عِقابًا؟.

الأمرُ ليسَ هكذا إطلاقًا، ومِن الخطأ المُميتِ أن نُحاوِلَ إسقاطَ مَنطِقِنا البَشَريَّ المَحدودَ والضيِّقَ، والمُرتَبِطَ بأهوائِنا على مَحبَّةِ اللهِ اللامُتناهِيَةِ، ومَنطِقِهِ المُنَزَّهِ عن كُلِّ عَيبٍ، وهُوَ الذي قال: "أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ"(متى ٢٠:٢٨).

وبِالعَودَةِ إلى الأسئِلَةِ أعلاه نَقولُها صَراحةً: الإجابَةُ ليسَت بِالأمرِ السَّهلِ، وتمرُّ بِنِقاطٍ ثَلاث:

الأُولى، حِكمَةُ الله:

أن يَطلُبَ المَرءُ النَّجدةَ عندما يَكونُ بِحاجَةٍ إليها أمرٌ طَبيعيٌّ جدًّا، وأن يَستَنجِدَ بِخَالِقِهِ إذا كانَ مُؤمِنًا، وينتَظِرَ مِنهُ الاستِجابَةَ هذا أيضًا مَنطِقيّ، ولكنَّ حِكمَةَ اللهِ غيرُ حِكمَةِ البَشرِ حتّى لو صَعُبَ علينا تفسيرُها وتَقبُّلُها، ولاقَت عِندَنا استِغرابًا واستهجانًا.

الثّانية، الحُريَّة:

الله لا يَفرِضُ نَفسَهُ على أَحَدٍ بِالقُوَّة، ولا يَقتَحِمُ حُريَّةَ أيِّ إنسانٍ، ويجبِرُهُ على العَمَلِ بِوَصايَاه، لأنَّ اللهَ مَحبَّةٌ، لَكِنَّهُ بِالمُقابِلِ لا يَنفَكُّ عن تَنبِيهِنا وإيقاظِ ضَميرِنا بِوَسائِلَ شتَّى. فَهُو الّذي قالَ: "هاءنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي." (رويا ٢٠:٣-٢١).

الثّالثة، المَوتُ:

مَا هُوَ المَوتُ في المَسيحِيَّة؟ وهل عِندَما نَمُوتُ يَنتَهي كُلُّ شَيء؟.

المَوتُ في المَسيحِيَّةِ مَوتُ الإيمَانِ، وألاّ يكون المسيحُ في القَلب، مِن هنا قالَ الرَّبُّ للشَّابِ الغَنيّ: «دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ، وَأَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ وَنَادِ بِمَلَكُوتِ اللهِ»(لوقا ٦٠:٩).

أمَّا ما يُسَمِّيهِ النَّاسُ مَوتًا فما هُو إلّا رُقادٌ. وحتَّى التَّلاميذُ الّذينَ أنقذَهُمُ الرَّبُّ مِنَ الغَرَقِ، استُشهِدَ مِنهُم فيما بعدُ العديدونَ مِن أجلِ الإنجِيل. فَهو لم يُنقِذْهُم مِنَ المَوتِ الجَسديّ بِشَكلٍ نِهائيّ، بَل ليُكمِلُوا رِسالتَهُم. وكذلكَ لَعازَرُ الرُّباعيُّ الأيَّامِ، بعدَ أن أقامَهُ الرَّبُّ عادَ ورَقَدَ كَكُلِّ البَشَر.

لِنذهَبْ أبعَدَ من ذَلِك. يَقولُ المَسيحُ لنا: "لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا، بَلْ خَافُوا بِالْحَرِيِّ مِنَ الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يُهْلِكَ النَّفْسَ وَالْجَسَدَ كِلَيْهِمَا فِي جَهَنَّمَ." (متى ٢٨:١٠). والمَقصودُ هُنا أنَّ للهِ وَحدَهُ السُّلطانَ بِتَقريرِ مَصيرِنا الأبَديّ، طَبعًا بِحَسَبِ نَوايَانا وأعمَالِنا، وكُلُّ سُلطَةٍ أُخرى فانِية، ولا خوفَ مِنها لأنَّها لَيسَت سَرمَدِيَّة.

ونحنُ نُؤمِنُ أنّهُ مَهما كَثُرَتِ الصِّعابُ يَبقى المَسيحُ الغالِبَ، وخَلاصُهُ أبديًّا، وكذلك "نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ." (​رومية​ ٢٨:٨).

خلاصة، هناك عبارة "ما بعد-وراء Beyond - Au-delà" قد تعطي إيضاحًا مهمًا. فبِقيامَةِ الرَّبِّ أَصبَحنا أُناسًا قِيامِيّين، ومَن يعتَبِرُ الموتَ جِدارًا شاهِقًا وسَدًّا كَبيرًا لا يُمكِنُ النَّظَرُ مِن خلالِه، نقول له: خطأ، فنُورُ القِيامَةِ حَطّمَ هَذا الجِدارَ ولم يَعُد هذا السَّدُّ قائِمًا، ولكنَّ هذا الأمرَ لا يُدرَكُ بالكَلامِ بل مِن خِلالِ علاقَةٍ وثيقةٍ مَعَ مُخلِّصِنا، عندها فَقط نُدرِكُ يَقينًا أنَّ خلاصَ التَّلاميذِ مِنَ الغَرَقِ كان زَمَنِيًّا، أمّا خلاصُهُم الحَقيقيّ والأبَديّ فكانَ باعتِرافِهم للرَّبِّ قَولًا وفِعلًا: «بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللهِ!» عندها فقط نَحذُو حَذوَهُم. إلى الرب نطلب.